بقلم عبد الله بن صالح الفوزان
الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أولي العلم النافع والعمل الصالح، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد:
فإن العلم النافع والعمل الصالح هما مفتاح السعادة وأساس النجاة للعبد في معاشه ومعاده، فمن رزق علمانا فعا وعملا صالحا فقد حاز الخير كله، ومن حرمها فقد خاب وخسر وقد حث الله تعالى في كتابه المبين على العلم النافع وأثنى على العلماء العاملين بعلمهم ووعدهم الأجر والمثوبة في دار رضوانه قال تعالى: ” شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ” [آل عمران: 18] وقال تعالى: ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ” [الزمر: 9] وقال تعالى: ” يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ” [المجادلة: 11] وقال لنبيه: ” وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ” [طه: 114].
ورسول الهدى حث أيضا على العلم وطلبه فقال صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» وبين فضل العلم ومكانة طالب العلم فقال: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» والنصوص في هذا كثيرة.
والمقصود أنه إذا كانت هذه المنزلة السامية والمكانة العالية لا تحصل إلا لمن عمل بعلمه تبين أنه من الواجب اتباع العلم بالعمل وظهور آثار العلم على طالبه، فالعلم إنما يطلبه صاحبه ليعمل به ويبلغه إلى الناس، فكما أن المال لا فائدة فيه إلا لمن أنفقه في طرق الخير فكذلك العلم لا فائدة فيه إلا إذا عمل به وتحول إلى صورة حية يراها الناس.
وقال ورد التأكيد على طالب العلم أن يكون عاملا بعلمه قائما بحقوق الله تعالى وحقوق خلقه على حسب ما يمليه عليه علمه وعلى قدر استطاعته كما ورد الوعيد والنهي الشديد للعالم الذي لم يعمل بما رزقه الله من العلم فلنقرأ قول الله تعالى ” أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ” [البقرة: 44].
قال ابن كثير: والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق انفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له بل على تركهم له فقط فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من يأمرهم به ولا يتخلف عنهم
وقال تعالى عن شعيب عليه السلام: ” وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ” [هود: 88] وقال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ” [الصف: 3، 4].
وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقولك كنت آمرك بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».
قال ابن علان: فشدد عليه الأمر لعصيانه مع العلم المقتضي للخشية والمباعدة عن المخالفة وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل فيه»
وفي معناه حديث أبي برزة الأسلمي بزيادة «وعن جسمه فيما أبلاه».
وهذا الحديث نص واضح على أن طالب العلم سيسأل يوم القيامة عن العمل بعلمه فعلينا أن نعد للسؤال جوابا، وللجواب صوابا، وقد ورد أيضا في حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه»
فهذه النصوص وغيرها أدلة واضحة على عظم المسئولية الملقاة على عاتق طالب العلم، ألا وهي مسئولية العمل به وظهور آثاره وثمراته عليه فإن عدم العمل بالعلم يؤدي إلى فساد العالم، وفساد العلماء أمره عظيم، وعاقبته وخيمة يقول عبد الله بن المبارك، وغيره من السلف «صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس قيل: من هم؟ قال: الملوك والعلماء».
ثم إن الناس إذا رأوا العالم الذي ظهرت عليه آثار المعاصي والمخالفة لما علم به وقعوا في حيرة بين الفعل والقول فهم يسمعون قولا جميلا ويرون فعلا قبيحا، فيؤدي ذلك إلى عدم ثقتهم به، والأخذ بكلامه، وهذا أمر لا مراء فيه.
وطالب العلم متى ظهرت عليه آثار المخالفة والعصيان على بصيرة فهو إنسان قد انقاد لهواه واستسلم لشهواته، لأن المطابقة بين القول والعمل لا سيما في مثل هذا العصر أمر شاق وعسير يحتاج من طلب العلم أن يحسن النية وينوي الإخلاص ثم يتوجه إلى الله تعالى طالبا العون والتوفيق وأن ينفعه بما علمه ثم رياضة للنفس، وجهد ومنحاولة مستمرة يصبح العمل بعدها والعلم متلازمين.
واعلم يا أخي طالب العلم أن العمل بالعلم من أقوى أسباب حفظه وبقائه في الذاكرة لأنه لما تحول العلم إلى صورة عملية وواقع مشاهد أصبح موصولا بالذهن مرتبطا بالذاكرة ثم لا تنس أن الحجة قد قامت عليه بما أعطاك الله من العلم ومن قامت عليه الحجة فهو أشد عذابا من غيره.
ونحن إذا ألقينا نظره عابرة على واقعنا وجدنا أن المتعلمين أبعد الناس عن العمل بعلمهم وامتثال أوامر الله ونواهيه إلا من رحم ربك وقد وجد من المغريات والملابسات ما ينأى بطالب العلم عن مجال العمل به، ويفرض عليه أن يجاري واقعه ولو خالف ما تلقى من العلم، وتلك لعمر الحق مصيبة وكارثة تستدعي الإفاقة نسأل الله جل شأنه أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه..
وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
العمل بالعلم
دليل الهداية والسعادة
ليهدى بك المرء الذي بك يقتدي
وكن عاملا بالعلم فيما استطعته
تنل كل خير في نعيم مؤبد
حريصا على نفع الورى وهداهم
وفي نبيلها ما تشتهي ذل سرمد
وفي قمع أهواء النفوس اعتزازها
علوما وآدابا كعقل مؤيد
وخير جليس المرء كتب تفيده
من العلما أهل التقى والتسدد
وخالط إذا خالطت كل موفق
فخالطه تهدى من هداه وترشد
يفيدك من علم وينهاك عن هوى
تحليتها ذكر الإله بمسجد
وخير مقام قمت فيه وحلية
يلين قلبا قاسيا مثل جُلمد
وواظب على درس القرآن فإنه
وخذ بنصيب في الدجا من تهجد
وحافظ على فعل الفروض بوقتها
تكن لك في يوم الجزا خير شهد
وحصن عن الفحشا الجوارح كلها
وعز على خير البرايا محمد
. وأزكى صلاة الله جل ثناؤه
العمل بالعلم وتعليمه الناس غنيمة
عظيمة وفرصة ثمينة
لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل
اعمل بعلمك تغنم أيها الرجل
والمتقون لهم في علمهم شغل
والعلم زين وتقوى الله زينته
لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيل
وحجة الله يا ذا العلم بالغة
لا يلهينك عنه اللهو والجذل
تعلم العلم واعمل ما استطعت به
إياك إياك أن يعتادك الملل
وعلم الناس واقصد نفعهم أبدا
فالرفق يعطف من يعتاده الزلل
وعظ أخاك برفق عند زلته
فأمر عليهم بمعروف إذا جهلوا
وإن تكن بين قوم لا خلاق لهم
واصبر وصابر ولا يحزنك ما فعلوا
فإن عصرك فراجعهم بلا صحر
عليك نفسك إن جاروا وإن عدلوا
. فكل شاة يرجليها معلقة
والحمدلله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله الظاهرين.
قال الحافظ ابن عساكر في الحث على العناية بالحديث النبوي سندا ومتنا:
واجهد على تصحيحه في كتبه
واظب على جمع الحديث وكتبه
سمعوه من أشياخهم تسعد به
اسمعه من أربابه نقلا كما
كيما تميز صدقه من كذبه
واعرف ثقات رواته من غيرهم
نطق النبي حكاية عن ربه
فهو المفسر للكتاب وإنما
من حرمه مع فرضه من ندبه
وتفهم الأخبار تعلم حله
سير النبي المصطفى مع صحبه
وهو المبين للعباد بشرحه
قرب إلى الرحمن تحظ بقربه وتجنب وتتبع العالي الصحيح فإنه
أدى إلى تحريفه بل قلبه
وتجنب التصحيف فيه فربما
عن كتبه أو بدعة في قلبه
واترك مقالة من لحاك بجهله
ويعد من أهل الحديث وحزبه
فكفى المحدث رفعه أن يرتضى