ديكارت فوكوّياً
» أنا أخطيء إذاً أنا موجود «
» عندما أتأمل ذاتي ، فإني لا أعرف فقط أنني كائن ناقص متعلق بغيري يسعى دائماً الى ما هو أفضل ويطمح إليه،بل أعرف في الوقت نفسه أن الكائن الذي يتعلق وجودي به ، له جميع الكمالات التي اطمح اليها .. وهو ينعم بها بالفعل وبمقدار غير متناه فهو الله « .
هذه هي إحدى النتائج المهمة للشك الديكارتي وتأملاته التي قادته الى أن ماهية الله متضمنة وجوده كما يتضمن تعريف المثلث ان مجموع الزوايا فيه يعادل قائمتين .
إن البرهان على فكرة اللامتناهي القائمة فينا ، يأتي في الدرجة الأولى بحسب الترتيب المنطقي لأن الشك الشامل اصطدم بحقيقة حدسية ومباشرة وغير قابلة للشك هي » أننا نفكر « .
وبالتالي لاتصبح الحقائق يقينية إلا لأنها صادرة عن القدرة الإلهية الكاملة وغير المتناهية فالله ثابت الوجود لأنه تام الوجود ، وإرادته لا تتميز من حكمته ، وهو كائن مطلق واجب الوجود الذي هو منبع كل حقيقة .
وبين قواعد ديكارت ومبادئه وتأملاته ينتقل فوكو قارئاً له أمام طلابه في الجامعة التونسية منذ ثلاثين عاماً /1966 – 1967/ وفق مبادئ أولية يحاول الالتزام بها وهي : الإلمام بكتابات ديكارت والحفر فيها لمعرفة الهدفية النصية منها ثم تحديد موقعها من سواها .
ولكن : هل يلتزم فوكو بادعائة ؟
وهل نجح محسن صخري في فكرة كتابه المعنون » فوكو قارئاً لديكارت « وفي أسلوب نقله الدروس الفوكوية في قراءة ديكارت ؟
سؤالان تحاول الإجابة عنهما هذه المداخلة التي تورط صاحبها في قراءة الكتاب الذي صدر عن مركز الانماء الحضاري بحلب .
في اللحظة الأولى يبدأ المؤلف البحث في تاريخية الفكر وبروز الفكرة أو مبدئها تاريخياً ويرى أن الفلسفة هي التي تملك الفكرة وفي حين أن الأفلاطونية ترى أن الفكرة تنتقل من الصورة وتعني بنظرية الفلسفة نظرية الفكرة أو الصورة يؤكد المؤلف قوله : » نجزم أن الفلسفة أفلاطونياً هي رؤيا إذ ليس الفيلسوف » إلا من كانت رؤيته أدق » أو الأقدر على الرؤية « » ص9« بعد ذلك يوضح أن المفكر يرفع الفكرة، ثم ينتقل من أفلاطون إلى ديكارت ليعرض من خلاله أن الإله موجود ما دمنا نفكر فيه ويستنتج من الكوجيتو أن الوجود يتحدد من الفكرة التي تضمنه .
وسعياً نحو إعلان سلطة النص يرى أن الفلسفة المعاصرة وضحت أن النص هو أصل الفكرة. إن بدء التأويل هو إعلان لسلطة النص على حساب سلطة الفكرة ولا يمكن تعريف النص لأن مهمة فلسفة التأويل هي إنطاقه ومحاورته .
ثم يبدأ المؤلف بشرح فكرة ريكور وتعريفه للنص » نسمي نصاً كل خطاب مثبت عبر الكتابة « فالكتابة هي تثبيت للقول مع الإبقاء على فكرة نسبية التثبيت ليبقى سابحاً في الاطلاق .
والقارئ – حسب ريكور – هو محاور النص بغياب منشئه .
ويغدو النص – هنا – مزدوج التغييب فهو يغيّب القارئ عن الكاتب في لحظة الكتابة كما يغيّب الكاتب عن القارى في لحظة القراءة .
ويرى أن التأويل يسقط أسطورة النص المعلم والكاتب المعلم .
وهنا يمنح النص تواريخ متعددة ، تاريخ الكتابة ، وتاريخ التأويل ، مستبعداً تثبيت النص من خلال عملية التأويل التقييمية .
وهو بذلك لا يدرك ان النص مؤولاً هو نص مختلف لا تاريخ مختلف للنص نفسه .
ثم يستعرض مفهوم التأمل من التأمل المجرد الى فن التأمل متنقلاً بين بارت وهيغل وفوكو بفهم مضطرب وباستعراض مشوش يصل الى درجة إثبات الشيء وعكسه بين بارت الذي يرفع التأمل الى درجة إدراك المستتر وهيغل الذي يلخصه في حركة » الأنا مع ذاتها « بشكل يمنع عنها الوصول الى وعي موضوعي .
وفي اللحظة الثانية يبدأ المؤلف بتقديم تأطيري للدروس التي سيقررها في الكتاب على لسان فوكو واصفاً إياه بأنه يقابل التأمل الديكارتي بالتأمل الفوكوي على نحو داخلي وفق قواعد ثلاث هي :
1- البحث عن ديكارت خارج نصه بالاستناد الى القراءة الهيغلية والنيتشويه والهوسيرلية والهايدغرية للنص الديكارتي .
2- قراءة النص الديكارتي بدءاً بالقواعد كمدخل جوهري لبحث مسألة التأملات التي تستند إليها هذه الدروس الفوكوية أساساً .
3- التركيز على التأملات التي يسميها ديكارت ميتافيزيقية ويرفعها فوكو إلى الرغبة في أن تكون علماً .
ويرى فوكو أن اكتشاف التأملات للكوجيتو واعتبار التفكير مقياساً للوجود داخل مناطق الشك يكشف عن النمط التدريجي الذي تحفل به التأملات لتقول ما تريده في الوقت المناسب لفاعلية القول . وفي نهاية التقديم يقرّظ المؤلف القراءة الفوكوية لديكارت ، التي لم تكتف بالتلقي وإنما حاكمت النص بمعادلة بين النص بين النص وتأويله وبين الشكل والمضمون » ومن الملاحظ هنا بروز التناقص عند المؤلف الذي لم يميز في قراءة فوكو بين المقابلة التأملية وفعل التأويل « ولم يكتف فوكو بالاختفاء وراء سلطان ديكارت – حسب المؤلف – بل أعلن بعض ثغراته وأظهر تردده بين الوضوح والتميز . وقد كان انغماس ديكارت في الثنائيات سبباً في هذا التردد بين الفكر والجسم والتناهي واللاتناهي ، والحقيقي والخاطئ .
لقد اكتشف ديكارت داخل التأملات المنهج التحليلي خلافاً للقواعد التي تستند الى منهج تأليفي وهذا ما يميز كتاب التأملات من المؤلفات الديكارتية الأخرى حسب فوكو .
في اللحظة الثالثة تبدأ فعلياً دروس فوكو يوصفه قارئاً لديكارت وفيها يبحث فوكو عن الصورة الديكارتية عند هيغل ثم عند نيتشه ثم عند هوسيرول وأخيراً يرسم صورة ديكارت كما رآها هايدغر ، وذلك من خلال قضايا مجتزأة أو أحكام حول بعض النصوص والمسائل أصدرتها القراءات السالفة . فهيغل يعدّ ديكارت واضعاً لأسس فلسفة الحداثة حيث انتقلت الفلسفة بوساطته من سؤال معرفة إلى سؤال المعرفة ، ثم الانتقال من قيود الموضوعي إلى التحرر الذاتي في إطار تأصيل الكوجيتو » أنا أفكر « وأخيراً تسييد الإنسان على الطبيعة من موقع الأخلاق .
في حين يرى نيتشه أن مشروع المعرفة الديكارتي صارم حيث يلزم الفكر العامي بتأهيل رياضي كما أن تعميم الذاتية بحيث تعطي أحكاماً موضوعية ، يتضمن أكذوبة لا يحتملها الواقع .
ثم وافق فهم فوكو لأحكام نيتشه على ديكارت يرى أنه يهمش العالم حين يتبعه بذات الإنسان ويراه يتقدم بلا تعرجات ، ويكون بذلك – أي ديكارت – مجرد صدى لفكر سابق عليه ، يتحدد بالنسق السقراطي أو الأفلاطوني .
وبعد أن قدّم المؤلف عرض فوكو بعض الآراء حول فكر ديكارت محاولاً تبيين موقعه من الفكر الحديث ، ينتقل الى تحليل فوكو للفكر الديكارتي بدءاً بالقواعد وانتهاءاً بالتأملات .
وهنا يظهر أن المشروع الديكارتي وفق فكرة » المعرفة الكونية« لا يعود الى مشروع » العلم المغلق « حول ذاته لكنه يمس الأخلاق أكثر منه المعرفي وبذلك يمر ديكارت من المعرفة الى المنهج الذي يمكّن منها. لكل ذلك كانت القواعد وكان خطاب المنهج ثم جاءت التأملات .
وهكذا ينتقل فوكو الى التساؤل عن ماهية المعرفة لدى ديكارت، فالمعرفة تجربة ثم استنتاج التجربة تُعطى للأنا مباشرة . أما الاستنتاج فهو شكل البرهنة أو التعقل بالانتقال من تجربة معطاة الى قضية لم تقدمها التجربة ، وبذلك يتضح الاختلاف بين الاستنتاج الذي لا يمكن أن يكون موضع خطأ وإنما يأتينا الخطأ من التجربة لذلك فالمعرفة الحقيقية او التعلّم الأولي الذي يحصل من التجربة ، هو البداهة . وهذا يمثل تراجعاً من المعرفة المتأتية من التجربة الحسية وتفضيلاً لمبدأ التعقل الرياضي كنموذج أصلي لإنشاء المعرفة كما يجب أن تكون .
بعد انتهاء فوكو من قواعد ديكارت ينتقل الى التأملات حيث يرى أن ديكارت هو الذي أدخل التأملات الى الفلسفة ويرى أن للتأمل مقصداً أو غاية لإدراك موضوع ما . ومن تأمل المسألة الدينية يتضح أن يكارت لم يكن معارضاً للموقف الديني السائد وإنما عارض الفهم الأرسطي للدين ، كما عارض نزعة الإلحاد . لذلك فإن ديكارت لم يكن غريباً عن فكر عصره ، وبينما يعدّ فوكو أن الميتافيزيقيا هي موضوع التأملات يبدو ان ديكارت كان يبحث عن دعائم ثابتة للعلوم مما ينفي عنه الهدف الميتافيزيقي المعلن ويحيل الى هدف التأملات التي تجعل العلم موضوعاً ، فداخل التأملات تتحول الميتا فيزيقا الى فلسفة أولى ثم الى عامة .
إن مسألة الفلسفة الأولى تحيل ديكارتياً – حسب فوكو – الى ضرورة إدراك زوال الميتافيزيقا العامة كبحث في الوجود بما هو موجود . كما أن النظر لا يتعلق بالنفس أو بالجسم منفصلين ، بل بطبيعة الانفصال بينهما وهذا يعني انتهاء الفلسفة الأولى كمبحث انطولوجي ، وبداية ثلاثة موضوعات هي : الإله ومسألة الوجود والنفس والجسد وانفصالهما .
ومن تفحّص التأملات يتبين أن البنية السداسية للتأملات تحيل الى : الشك ، النفس ، والإله ، الخاطئ والحقيقي ، الإله وماهية الأشياء المادية ، وفي اختلاف النفس عن الجسم . كما نجد التأملات من الأول الى الثالث تبيّن » ان واقع النظر يمر من اللاتيقّن من هذا الشيء الذي يقع خارجه / الإله / » أو لعل الإله هو الشيء الوحيد الذي يقع خارج الأنا أفكر « ، على أن إثبات الذات ديكارتياً تبقى عقيمة إذ يفترض التفكير في هذا الخارجي » وجوده « فإثبات هذا الإله الذي بإمكانه » أن يجعل الإثباتات الأخرى ممكنة فالكل تابع للإله « ص/64/65/
ومن ذلك نتبين أن التأملات تحيلنا الى جملة ثنائيات مختلفة .
وبعد أكثر من نصف الكتاب يبدأ فوكو بتحليل تأملات ديكارت من خلال نقل الأستاذ محسن صخري للدروس المعطات التي لا نستطيع ان نتبين من خلالها اي جديد في فهم التأملات الديكارتية كما وردت لديه بحيث يقف فوكو حيادياً تماماً ، إن لم نقل أن نقل الدروس تلك تفيض بتشويش الذهن حول المعطى الديكارتي في تأملاته .
وذلك باستثناء رأي عام ورد أثناء الحديث عن التأمل السادس حيث يرى فوكو ان الديكارتية خلّصت الفلسفة من الخطاب الأنطولوجي وأحدثت نمط معالجة الكينونة من منطق الاختلاف كما بدأت الفلسفة بالميل لصالح الماهية على حساب الكينونة واللقاء بين العقلاني والرياضي في التأملات جعل تأثير الرياضي يتجسد داخل الفلسفي ذاته على حساب الانطولوجي .
ومن خلال قراءتنا السريعة لفوكو قارئاً ديكارت نجد انه لم يعمق فهمه إياه من خلال القراءة تلك مما يجعلنا نرجّح أن فوكو لم يقدّم جديداً لقراء ديكارت بدون وساطته وإن يكن قد حاول الالتزام للوفاء بادعائه الذي تصدّر الدروس .
أما الأستاذ محسن صخري فقد نجح من خلال فكرة كتابه بنقل دروس جامعية عن مدرّس مثل فوكو لكنه تعثر بالاسلوب ولم يسعفه المخزون اللغوي بانتقاء الألفاظ للتعبير عما يريد قوله كما أنه كان أميناً على النقل ولم يبد سوى إكالة المديح لأستاذه من غير أن نجد مسوغاً لذلك .
وأخيراً إذا كنا نحمد للناشر أناقة الكتابة وجمال غلافه ، نأخذ على مركز الإنماء الحضاري وعلى المؤلف معاً ، تلك الأخطاء الهائلة الواردة فيه ، مثل اضطراب الفهم وعدم التفريق بين الرؤيا والرؤية ص/9/ وكثرة استعمال الهمزات في غير مكانها المناسب وعدم التمييز بين همزتي القطع والوصل على امتداد الكتاب كله ، وتكرار بعض الكلمات التي تعزى الى الطابع ينُظر / ،51،19،18،15،11 53 /.
وسنكتفي أيضاً بسرد الأغلاط التي وردت على امتداد الكتاب كله دفعاً للإطالة :
التنسيب ، تعتبر أن ، في نفس الوقت ، تغيباً ، طالما ، إن ثم نقل ، مالتأمل ، معرافته ، وما ما ينجز ، تتوجد ، بمثابة ، إنما ما تعززه ….
وذلك في أكثر من خمسين صفحة .
وإذ نكتفي بهذه الصفحات ، يستطيع القارئ أن يرى مثل تلك الأغلاط على امتداد الكتاب كله ، فضلاً عن الاضطراب في استعمال النسبة :
فوكولتي /فوكوري / فوكولي / فوكوي ، على امتداد الصفحات /29،28،26،22/ وسواها. ونلحظ اضطراباً شديداً في استخدام أحرف الجر / عن ، على / مما يغيّر المعنى المراد في كثير من الأمكنة ، ينظر مثلاً ص/27،24/.
وعذراً لهذه العجالة وإنما ابتغينا أن يفيد منها الناشر والمؤلف والقراء معاً .
وما هذه القراءة سوى مقاربة أوليّة تلامس النص تاركة للقراءة الأعزاء الحكم النهائي عليه .
د. جمال طحان