توسيع مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

يوجد قصور في فهم كثير من الناس في قصر مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على منكرات معينة، بينما خيانة الأمانة واستغلال النفوذ وغيرها من المنكرات الوظيفية قد تكون أعظم لتعلق حقوق الناس بها، ولكونها ذنوبا متعدية. وفي القرآن كثير من الآيات التي تنبه إلى ضرورة الاهتمام بهذا الشعيرة، ومنها:
1. {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }آل عمران104
2. {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ }آل عمران110
3. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }التوبة71
4. {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }لقمان17
5. {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ{78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ{79} المائدة 78-79.
6. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} هود 117.
7. {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} الأعراف 165.

وفي الأحاديث النبوية نجد ما يؤكد هذا المبدأ الإسلامي فمن تلك التوجيهات:
1. روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي  قال مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا .
2. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله  يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم
3. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله  قال ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. رواه مسلم.
4. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال بايعنا رسول الله  على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.رواه البخاري ومسلم
5. وعن أبي عبد الله طارق بن شهاب البجلي الأحمسي أن رجلا سأل النبي  وقد وضع رجله في الغرز أي الجهاد أفضل قال كلمة حق عند سلطان جائر.رواه النسائي بإسناد صحيح.

تحتم نصرة المظلوم:
وأخذ الحق للمظلوم من ظالمه أمر واجب، كما في الحديث:” إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي، وهو غير متعتع” .

الرقابة على الحاكم أو المسؤول الكبير:
الرقابة على تصرفات الحاكم أمر واجب على الأمة على الكفاية، وعدم وجود من يقوم بهذا الواجب نذير خطر على الجميع، ووجود المصلحين صمام أمان للمجتمع، ولذا كان الخلفاء الراشدون يبدؤون حكمهم بطلب التقويم عند الخلل والخطأ، فقد روى ابن إسحاق خبر تولي الصديق وأنهم لما بايعوه تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال أما بعد أيها الناس فأني قد وليت عليكم ولست بخيركم فان أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني .
وأما عمر فكانت خطبته الافتتاحية لخلافته مركزة على علاقة الحاكم بالمحكوم ومما جاء فيها:” وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم..” .
وهذا ما جعل معاوية رضي الله عنه يختبر الناس في هذا الجانب، فقد روى الطبراني في الكبير من طريق أبي قبيل أنه يأثر عن معاوية بن أبي سفيان أنه صعد المنبر يوم الجمعة فقال عند خطبته إنما المال مالنا والفيء فيئنا فمن شاء أعطيناه ومن شئنا منعناه فلم يجبه أحد فلما كان الجمعة الثانية قال مثل ذلك فلم يجبه أحد فلما كان الجمعة الثالثة قال مثل مقالته فقام إليه رجل ممن حضر المسجد فقال كلا إنما المال مالنا والفيء فيئنا فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا فنزل معاوية فأرسل إلى الرجل فأدخله فقال القوم هلك الرجل ثم دخل الناس فوجدوا الرجل معه على السرير فقال معاوية للناس إن هذا الرجل أحياني أحياه الله سمعت رسول الله  يقول سيكون أئمة من بعدي يقولون ولا يرد عليهم يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد فخشيت أن أكون منهم ثم تكلمت في الجمعة الثانية فلم يرد علي أحد فقلت في نفسي إني من القوم ثم تكلمت في الجمعة الثالثة فقام هذا الرجل فرد علي فأحياني أحياه الله . ولا يقر الإسلام تغيير الخطأ بالتمرد العسكري كما قال الرجل، ولكن المنهج الشرعي هو إنكار المنكر بالقول والوسائل الشرعية.

تعيين المساعدين الذين يعينون على الرقابة:
دأب القادة الناجحون من الخلفاء وغيرهم على حث الناس أن يمارسوا الرقابة على تصرفاته حتى لا تزل قدمه بقرار متعجل أو تصرف خاطئ يورث الندم والحسرة، ولذلك فإن من توفيق الله لصاحب المنصب أن يكون من معه في العمل من أهل الصلاح، ففي صحيحا البخاري عن أبي سعيد مرفوعا:” ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالخير، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء، وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمه الله” ، وقوله صلى الله عليه وسلم:( من ولي من أمر الناس فأراد الله به خيرا جعل معه وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه ) . ولذا فقد كان هذا المعيار هو طريق القرب من الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز، فقد قال مرة:” من أراد أن يصحبنا فليصحبنا بخمس: يوصل إلينا حاجة من لا تصل إلينا حاجته، ويدلنا من العدل إلى ما لا نهتدي إليه…ومن لم يفعل ذلك فهو في حرج من صحبتنا والدخول علينا” .

تقريب كبار الناس لكونهم أشجع على النقد:
ولأن الرقابة والنقد من كبار المجتمع أولى بالاهتمام من غيره ، فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: بلغني أنك تأذن للناس جما غفيرا، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة” . ورقابة البرلمانات ومجالس الشورى قد تكون من هذا القبيل.
وكان خلفاء العدل يفرحون بقرب الفقهاء والعلماء وكبار الناس لأنهم يصوبونهم ويبذلون النصح لهم، فقد قام أبو مسلم الخولاني وقال لمعاوية رضي الله عنه: يا معاوية، لا تحسب أن الخلافة جمع المال وتفريقه، إنما الخلافة القول بالحق، والعمل بالمعدلة، وأخذ الناس في ذات الله. يا معاوية، إنا لا نبالي بكدر الأنهار، إذا صفى لنا رأس عيننا. يا معاوية، إياك أن تميل على قبيلة من العرب، فيذهب حيفك بعدلك.ثم جلس. فقال معاوية: يرحمك الله يا أبا مسلم، يرحمك الله يا أبا مسلم .
وأما عمر بن عبدالعزيز فقد كتب لفقهاء المدينة ليراقبوا تصرفاته وتصرفات حكامه، وأن يبلغوه عن ما يحصل من تجاوزات، فمن كتم فقد استعدى الله عليه .

سياسة الباب المفتوح:
كما أن من أعظم صفات القائد الناجح أن يفتح صدره قبل بابه لمن هم تحت ولايته ليرفعوا تظلماتهم واقتراحاتهم ، وتسمى في العرف الإداري :”سياسة الباب المفتوح ” ولا يعنينا الاسم بقدر ما يعنينا أن إغلاق الباب متوعد عليه في حديث عمرو بن مرة رضي الله عنه قال قال رسول الله عليه وسلم : ( ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته ) . وخطب عمر مرة في موسم الحج وبين يديه عماله، فمما قال لهم:”… ولا تغلقوا الأبواب دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم ..” .
وكان عمر رضي الله عنه ينهى عماله أن يتخذوا لمجلس الإمارة بابا، فإذا خالف أحدهم فوضع بابا، فإن عمر يرسل مفتشه محمد بن مسلمة ليحرق الباب أمام الناس كما فعل مع سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن قرط رضي الله عنهما .

تشجيع الناس على الرقابة على أداء الحكومة:
وبلغ اهتمام أبي بكر الصديق بأمر الرقابة الأهلية أن يطلب من الناس أن يتقدموا بأي تظلم أو نقد ، فقد حج ونادى في أهل مكة خطيبا: هل من أحد يشكي ظلامة، أو يطلب حقا؟ فما أتاه أحد، وأثنى الناس على واليهم خيرا، فرجع إلى المدينة قرير العين .
وأما عمر فقد كان يعقد اجتماعا بولاته في موسم الحج، ويستمع لشكاوى الناس ضد الولاة فينهيها في ذلك المكان الطاهر . وكان يستشعر مسؤوليته أمام الله تعالى إذا علم بظلم فلم يغيره، فقد روى ابن سعد عنه أنه قال:” أيما عامل لي ظلم أحدا فبلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته” .
وكذا فعل عثمان رضي الله عنه فقد كتب لأهل مصر:” أما بعد، فإني آخذ عمالي بموافاتي كل موسم، وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواما يشتمون ويضربون فمن ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم يأخذ حقه حيث كان مني أو من عمالي، وتصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين” .
وأما عمر بن عبدالعزيز فقد بدأ خلافته بخطبته الشهيرة التي أعقبها بنداء عام:” من كانت له مظلمة فليرفعها” .

فن الاستماع للجمهور:
ولا يغفل فن الاستماع للشكوى والتظلمات، وهو من الآداب النبوية، ولما عاب المنافقون النبي صلى الله عليه وسلم أنه يستمع لكل أحد ولو كان من عامة الناس أنزل الله عز وجل قوله تعالى {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }التوبة61. ففن الاستماع من صفات القائد الناجح.

مكافأة لمن يقدم اقتراحا أو يرفع مظلمة:
ووصل اهتمام الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله بالرقابة الشعبية، أن وضع مكافأة لمن يدل على خلل في الدولة أو فساد. فقد كتب لأهل الموسم ( أي الحجاج في مكة): أما بعد، فأيما رجل قدم علينا في رد مظلمة، أو أمر يصلح الله به خاصا أو عاما، من أمر الدين، فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار، بقدر ما يرى من الحسبة وبعد الشقة، رحم الله امرءا لم يتكاأده بُعد سفرٍ (أي يشق عليه لبعده)، لعل الله يحيي به حقا أو يميت به باطلا، أو يفتح به من ورائه خيرا…” . وكذا فعل عبدالرحمن بن معاوية بن حديج عندما كان قاضيا فقد وضع مكافأة لمن يكشف عن أموال اليتامى الغائبة، وذلك سنة 86هـ مما حفظ أموال تلك الفئة الضعيفة من جشع الأولياء .

طرد المتملقين المداحين:
لا تخلو منشأة من المتملقين ، الذين يصعدون على الأكتاف، وهم والله أساس البلاء في كثير من المنظمات والمنشآت. وقد روى مسلم أن رجلا جعل يمدح عثمان فعمد المقداد فجثا على ركبتيه وكان رجلا ضخما فجعل يحثو في وجهه الحصباء فقال له عثمان ما شأنك فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب . وللأديب الفقيه ابن حزم عبارات غاية في الجمال والحكمة، في التحذير من الفرح بالمدح، فمما يناسب ذكره:
• أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك لأنه نبه على نقصك وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك لأنه نبه على فضلك ولقد انتصر لك من نفسه بذلك وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة.(الأخلاق والسير /45).
• وليس في الرذائل أشبه بالفضائل من محبة المدح ودليل ذلك أنه في الوجه سخف ممن يرضى به وقد جاء في الأثر في المداحين ما جاء إلا أنه قد ينتفع به في الإقصار عن الشر والتزيد من الخير وفي أن يرغب في ذلك الخلق الممدوح من سمعه. ولقد صح عندي أن بعض السائسين للدنيا لقي رجلاً من أهل الأذى للناس وقد قلد بعض الأعمال الخبيثة فقابله بالثناء عليه وبأنه قد سمع شكره مستفيضاً ووصفه بالجميل والرفق منتشراً فكان ذلك سبباً إلى إقصار ذلك الفاسق عن كثير من شره.(الأخلاق والسير /50).
• لا يسرك أن تمدح بما ليس فيك بل ليعظم غمك بذلك لأنه نقصك ينبه الناس عليه ويسمعهم إياه وسخرية منك وهزؤ بك ولا يرضى بهذا إلا أحمق ضعيف العقل. ولا تأس إن ذممت بما ليس فيك بل إفرح به فإنه فضلك ينبه الناس عليه ولكن إفرح إذا كان فيك ما تستحق به المدح وسواء مدحت به أو لم تمدح واحزن إذا كان فيك ما تستحق به الذم وسواء ذممت به أو لم تذم.(الأخلاق والسير /53).
• إياك والامتداح فإن كل من يسمعك لا يصدقك وإن كنت صادقاً بل يجعل ما سمع منك من ذلك في أول معايبك. وإياك ومدح أحد في وجهه فإنه فعل أهل الملق وضعة النفوس وإياك وذم أحد لا بحضرته ولا في مغيبه فلك في إصلاح نفسك شغل.(الأخلاق والسير /85).

مع عمر بن عبدالعزيز في تحقيق إداري:
وذكر الطبري قصة طريفة، فيها عبرة، وهي تحكي طريقة عمر بن عبدالعزيز في الرقابة على أعمال الدولة فقد كتب الجراح بن عبدالله والي خراسان إلى عمر بن عبدالعزيز خليفة المسلمين وأوفد وفدا رجلين من العرب ورجلا من الموالي من بني ضبة فتكلم العربيان والآخر جالس فقال له عمر أما أنت من الوفد قال بلى قال فما يمنعك من الكلام قال يا أمير المؤمنين:
1- عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق.
2- ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج.
3- وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا فيقول أتيتكم حفيا وأنا اليوم عصبي والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم وبلغ من جفائه أن كم درعه يبلغ نصف درعه.
4- وهو بعد سيف من سيوف الحجاج قد عمل بالظلم والعدوان.
فقال عمر إذن مثلك فليوفّد. وكتب عمر إلى الجراح انظر من صلى قبلك إلى القبلة فضع عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام فقيل للجراح إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام وإنما ذلك نفورا من الجزية فامتحنهم بالختان. فكتب الجراح بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا ولم يبعثه خاتنا.
وقال عمر ابغوني رجلا صدوقا أسأله عن خراسان فقيل له قد وجدته عليك بأبي مجلز فكتب إلى الجراح أن أقبل واحمل أبا مجلز وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي وعلى جزيتها عبيد الله أو عبد الله بن حبيب. فخطب الجراح فقال يا أهل خراسان جئتكم في ثيابي هذه التي علي وعلى فرسي لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي ولم يكن عنده إلا فرس قد شاب وجهه وبغلة قد شاب وجهها فخرج في شهر رمضان، واستخلف عبد الرحمن بن نعيم فلما قدم قال له عمر متى خرجت قال في شهر رمضان قال قد صدق من وصفك بالجفاء هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج . وبتحليل هذا الخبر نجد فيه:
1- أن عمر شجع الشاكي على الحديث، وأثنى على نصحه بقوله: مثلك فليوفد.
2- أن الأخطاء التي وقعت من الجراح لم يتأثر بها كلها المولى الشاكي، فإنه ذكر ظلمه لمن أسلم من أهل الذمة، وتقديمه لقومه، ومجاهرته بذلك.
3- كيف تؤثر بطانة السوء على القرار الإداري، ويعملون على تعطيله. حيث أنهم خشوا أن يقل خراج الجزية، بإسلام الذميين.
4- أهم صفات المفتش الإداري، والمراقب التنفيذي الصدق.
5- طلب عمر من جلسائه ترشيح رجل يقوم بمهمة الرقابة تدل على وجوب اختيار الأفضل، وأهمية الاستشارة في ذلك.
6- خلو ذمة الجراح من الثراء بسبب المنصب.
7- على القائد ألا يشق على من يقوم بالتحقيق معه بأن يستعجله في القدوم بحيث يأتي، وهو في غاية الإجهاد والتعب.

أبو يوسف يوصي المنصور بالاهتمام بالرقابة الشعبية
ويحث أبو يوسف القاضي، الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور على الاهتمام بالرقابة الشعبية ومظالم الناس فيقول:” فلو تقربت إلى الله عز وجل، يا أمير المؤمنين، بالجلوس لمظالم الرعية في الشهر أو الشهرين مجلسا واحدا تسمع فيه من المظلوم وتنكر على الظالم… حتى يسير ذلك في الأمصار والمدن، فيخاف الظالم وقوفك على ظلمه فلا يجترئ على الظلم، ويأمل الضعيف المقهور جلوسك ونظرك في أمره فيقوى قلبه ويكثر دعاؤه” .

الرقابة على الحكومات في علم الإدارة الحديث:
قد يكون أقرب مفهوم لرقابة الجمهور في القانون الإداري الحديث هو مفهوم الرقابة السياسة، وهي الرقابة التي يمارسها الشعب عن طريق المجالس المنتخبة أو الأحزاب والتنظيمات السياسية أو المنظمات الأهلية أو أفراد الشعب منفردين. ويكون عادة بثلاث طرق:
الطريق الأول: تقديم الأسئلة والاستجواب، ومناقشة الأداء والميزانية، ونحو ذلك. وتكون عن طريق المجلس النيابي أو مجلس الشورى.
الطريق الثاني: رقابة الأحزاب والتنظيمات السياسية، وذلك في الأنظمة المتعددة الأحزاب، فتلجأ الأحزاب المعارضة إلى البحث عن الأخطاء والثغرات ونشرها ومناقشتها في البرلمان أو الصحف أو عن طريق الندوات والمظاهرات في البلاد التي تسمح بذلك.
الطريق الثالث: رقابة الرأي العام، وهم المواطنون، فإذا رأى مواطن خللا ما فإنه يسعى لإصلاحه بالطرق المشروعة . وهي المقصودة بالرقابة الأهلية والشعبية ورقابة الجمهور.
وفي الحقيقة فإن القانون الإداري الحديث لم يعط رقابة الجمهور أهمية كما هو الحال في النظرية الإسلامية، وعادة ما تكون موضوع الرقابة السياسية داخل في القانون الدستوري، وقد اقتصر الدكتور هيكل عند تطرقه للرقابة السياسية على أن وسائلها ثلاث وهي السؤال والاستجواب والتحقيق البرلماني. فالدول التي لا يوجد فيها برلمان، فإن هذا النوع من الرقابة غير مفعل فيها، ولذا يطلق عليها: الرقابة البرلمانية .
وقد حرصت الدول المتقدمة مؤخرا على الاهتمام بالرقابة الأهلية ( Watch groups) ، ومن تلك الدول بريطانيا التي استحدثت عقد المواطن (Citizen Charter)، والذي يقوم بتوعية المواطن أن المؤسسات العامة ملك له، ولا تكون علاقته بها علاقة المستفيد، بل علاقة المالك الذي يحرص على ملكه أشد الحرص، وهذا ما دعت إليه دراسة صادرة عن الأمم المتحدة (United Nations, 1990) .
ومما ينمي الرقابة الشعبية، نزاهة وسائل الإعلام وحياديتها، ولذا يسميها البعض السلطة الرابعة، وكم رأينا من فضيحة إدارية اكتشفت، من خلال الصحافة، وكم عولج من فساد إداري بسبب مقال أو تحقيق أو صورة معبرة والشواهد لا تحصى.