القدوة من كبار الموظفين لمن تحت سلطتهم:

من أهم ما يسهل العملية الرقابية، أن يكون كبار الموظفين قدوة لمن دونهم، وأعظم القدوات نبينا صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى:” لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر..” (الأحزاب : 21)، فهو قدوة للقائد المسلم في زهده في المال، والعدل والحزم والرحمة، وقدوة للمقاتل في الشجاعة والتخطيط وتدبير الحروب، وقدوة للقاضي في سير القضايا ومراعاة العدل في الأحكام، وقدوة للمعلم في صبره وتأنيه وحسن تعلينمه، وصدق القائل:
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله.
وقد سار كبار أصحابه على تلك القيم الفضلى والمثل العليا ، ومن أعجب ما يروى في ذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت:” لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه قال: انظروا ماذا في مالي منذ دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي، فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه ، وإذا ناضح ( بعير للسقيا) كان يسقي بستانا له، فبعثنا إلى عمر رضي الله عنه وقال: رحمة الله على أبي بكر، لقد أتعب من بعده تعبا شديدا” .
وتروي لنا كتب التاريخ أنه لما حملت مغانم العراق بعد فتحها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورأى ما فيها من الجواهر جعل يتعجب ويقول: إن الذي أدى هذا لأمين، فقال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: أنا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين أنت أمين الله وهم أمناؤك فما دمت مؤديا للأمانة أدوها ومتى رتعت رتعوا . وكما هو معلوم فإن أخلاق القائد تؤثر في من تحته وقد قيل : الناس على دين ملوكهم ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هرقل : ( فإن أبيت فإن عليك إثم الأريسيين) أي الفلاحين .
ومن ورع عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وزهده أنه كان يوسع على عماله في النفقة، ويشدد على نفسه، فيعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار. وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين، فقيل له: لو أنفقت على عيالك ، كما تنفق على عمالك؟ فقال: لا أمنعهم حقا لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم” .

سرعة القرار المترتب على الرقابة:
لا يعقل أن تتكلف المنشأة أموالا وجهدا للرقابة بأنواعها ثم لا يترتب على ذلك شيء، أو يصدر قرار متأخر. ونجد الإداري الفذ خليفة المسلمين عمر بن عبدالعزيز لما تحقق من وجود خلل في والي البصرة كتب إليه:”أما بعد: فإنك غررتني بعمامتك السوداء، ومجالستك القراء، وإرسالك العمامة من ورائك، وإنك أظهرت لي الخير، فأحسنت بك الظن، وقد أظهر الله ما كنتم تكتمون. والسلام” .
وقد يكون التوبيخ والتحذير طريق اعتدال الوالي المرتكب للمخالفة، فقد كتب عمر بن عبدالعزيز لأحد عماله:” لقد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما عدلت وإما اعتزلت” .
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عامله على خراسان:” إنه بلغني أنك استعملت عبدالله بن الأهتم وإن الله لم يبارك لعبدالله بن الأهتم في العمل، فاعزله، وإنه على ذلك لذو قرابة لأمير المؤمنين. وبلغني أنك استعملت عمارة، ولا حاجة لي بعمارة، ولا ضرب عماره، ولا برجل قد صبغ يده في دماء المسلمين، فاعزله” .

الوعي الوظيفي:
من الضروري أن تنشر التوعية الوظيفية بين العاملين، ببث المبادئ الإدارية حتى لا يقعوا في الأخطاء. ومن أهم تلك المبادئ أن يحرص على جودة العمل أكثر من حرصه على سرعة إنهائه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” إن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن” ،وقد ذكر ابن هذيل في كتابه ( عين الأدب والسياسة) عن بعض السلف أنه قال: لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده فإن الناس لا يسألون في كم فرغ منه وإنما يسألون عن جودة صنيعه .

تعيين الكفء الأمين :
وأما في التعيين الإداري فلا بد أن يكون معيار التعيين في المنصب الإداري هو الكفاءة، بأن يكون أمينا ذا صلاح وتقوى، وصفة الأمانة أحدى ركني الولاية ولذلك جاء في التنزيل:” إن خير من استأجرت القوي الأمين”(القصص :26) وفي سورة يوسف(آية 55):” اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم” وفي حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل نجران:” لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين، قال: فاستشرف له الناس فبعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه” . فإن وجد رجل أمين في ضعف ورجل إداري قوي وليس بأمانة الأول فقال شيخ الإسلام:” إذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها..” ، والأمانة مرتبطة بالتقوى والصلاح الذي هو أهم شروط المنصب.

تقديم ذوي الخبرة:
ولا بد أن يكون المعين في المنصب ذا خبرة وتجربة ، قال قيس بن عاصم لبنيه :” إذا مت فسودوا أكبركم فإن القوم إذا سودوا أكبرهم أحيوا ذكر أبيهم، ولا تسودوا أصغركم فيسفه الناس كباركم وتهونون عليهم…” . وقال علي رضي الله عنه : رأي الشيخ خير من مشهد الغلام . وإن كان الصغير مؤهلا فيقدم للقيادة فقد قال الشاعر في محمد بن القاسم فاتح بلاد السند وهو ابن سبع عشرة سنة:
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ولداته إذ ذاك في أشغال
قعدت بهم لذاتهم وسمت به همم الملوك وسَوْرة الأبطال

وقال آخر :
لا تعجبوا من علو همته وسنه في أوان منشاها
إن النجوم التي تضيء لنا أصغرها في العلو أعلاها
والمقصود هنا أن يتم اختيار من يحسن العمل وهذا يكثر في ذوي الأسنان، وقد يوجد في الأحداث من هو أفضل من كثير ممن هو أعلى منه سنا فقد قال علي رضي الله عنه:” قيمة كل امرئ ما يحسنه” .

الاختبار ثم الاختيار:
ومن الخطأ تعيين أحد في منصب قبل اختباره، قال علي رضي الله عنه:” الطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار عجز” . ويكون الاختبار بطرق أربعة:
1. بالمقابلة الشخصية أي بالاختبار الشفهي.
2. بالاختبار التحريري.
3. بالاختبار العملي، كما إذا كانت الوظيفة مهنية.
4. بالتجربة لمدة معينة، كأن يعمل ثلاثة أشهر بمكافأة مالية تحت الاختبار وقبل توقيع أي التزام تعاقدي.

تحديد الأجرة (=المرتب):
ومن أعظم ما يمنع الفساد الإداري، إعطاء الموظف حقوقه المالية أولا بأول وتأكيدا لذلك المبدأ يقول صلى الله عليه وسلم:” أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه” .
كما أن تناسب المرتب مع حساسية الوظيفة وأهميتها أمر لا ينبغي إغفاله، لأن الاستقرار العائلي والمالي للموظف له أثره البالغ في أداء الموظف. ولذا قال صلى الله عليه وسلم:” من كان لنا عاملا ، فلم يكن له زوجة، فليكتسب له زوجه، فإن لم يكن له خادم، فليكتسب له خادما، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا، ومن اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق” . وهذا هو الاتجاه الحديث لكثير من الشركات الناجحة ، وذلك بتقديم المساعدات للموظفين على شكل قروض حسنة لتوفير المسكن وغيره من متطلبات الحياة. وقال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما لما راجعه في تولية الصحابة في الولايات العامة:” أما إذا فعلت فأغنهم بالعمالة ( أي بالأجر الجزيل) عن الخيانة” . ومن حكمة عمر بن عبدالعزيز أنه كان يوسع على عماله في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار. وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين، فقيل له: لو أنفقت على عيالك ، كما تنفق على عمالك؟ فقال: لا أمنعهم حقا لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم” .

لا للازدواج بل تفرغ تام للعمل:
ومن الأسباب التي تساعد على الضبط الإداري، التفرغ التام للعمل، وعدم الانشغال بأعمال أخرى من تجارة أو غيره، ولعظم هذا الأمر فقد كتب عمر بن عبدالعزيز كتابا إلى عماله:” نرى أن لا يتجر إمام، ولا يحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه، فإن الأمير متى يتجر، يستأثر ويصيب أمورا فيها عنت، وإن حرص أن لا يفعل” .

المشورة:
أن يكثر المشورة ، وذلك استجابة لقوله تعالى:” وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله” ،وفي وصف أهل الإيمان يقول تعالى:”وأمرهم شورى بينهم”.

ولا يعني هذا أن يستشير جميع من تحته بل يختار منهم من هو أهل للاستشارة، ويدل على هذا حديث ميمون بن مهران أن أبا بكر الصديق كان إذا ورد عليه أمر ولم يجده في الكتاب والسنة دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم وكان عمر يفعل ذلك . وقال ابن عباس: كان القراء- يعني أهل العلم- أصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبانا .
وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما قصة قدوم عمر للشام وأنه لما أخبر بوقوع الطاعون بها دعى المهاجرين الأولين فاستشارهم ..” . ولما بعث عمر رضي الله عنه جيشا إلى العراق وأمر عليهم أبا عبيدة الثقفي أمره أن يستشير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يستشير سليط بن قيس فإنه رجل باشر الحروب” .قال ابن المعتز : من أكثر المشورة لم يعدم عند الصواب مادحا وعند الخطأ عاذرا . وعليه أن يستخدم الأسلوب الأمثل في المشورة ؛ فقد ذكر الجهشاري أن سابور ذا الأكتاف وهو من ملوك الفرس استشار وزيرين كانا له في أمر من أموره فقال أحدهما : لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحدا إلا خاليا فإنه أموت للسر وأحزم في الرأي وأدعى إلى السلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض ، لأن الواحد رهن بما أُفضي إليه وهو أحرى ألا يظهره رهبة للملك ورغبة إليه ، وإذا كان عند اثنين مظهر ؛ دخلت على الملك الشبهة واتسعت على الرجلين المعاريض ، فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد وإن اتهمهما اتهم بريئا بجناية مجرم وإن عفا عنهما عفا عن واحد لا ذنب له وعن الآخر والحجة عليه . وعليه أن يقصد الكبار وذوي الخبرة في الاستشارة ، قال علي رضي الله عنه : ( رأي الشيخ خير من مشهد الغلام ) . وقد يكون عند صغار السن ما لا عند غيرهم لحدة عقولهم ، وقد كان ابن شهاب الزهري رحمه الله يشجع الصغار ويقول :” لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم ” .

علاج البيروقراطية بتوسيع نطاق اللامركزية:
وكما هو معلوم فإن للبيروقراطية مساوئ أبرزها إطالة المدة بين القرار الإداري وتنفيذه، وقد عالجه عمر بن عبدالعزيز بكتابة إلى عروة بن محمد – وكان عاملا على اليمن-:” أما بعد، فإني أكتب إليك آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم، فتراجعني، ولا تعرف بعد المسافة ما بيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت، حتى لو كتبت إليك أن اردد على مسلم مظلمة شاة، لكتبت : أرددها عفراء أو سوداء!، فانظر أن ترد على المسلمين مظالمهم، ولا تراجعني” . وقد كان عمر بن عبدالعزيز حريصا على سرعة القرار الإداري، فلذا كان يحرص ولاته على البت في المواضيع، وعندما كتب له عدي بن أرطاة في أمر شرعي كتب له عمر:”أما بعد، فإنك لا تزال تعني إلي رجلا – أي تتعبه- من المسلمين في الحر والبرد، تسألني عن السنَة، كأنك إنما تعظمني بذلك، وايم الله لحسبك بالحسن- أي البصري- ، فإذا أتاك كتابي هذا فسل الحسن لي ولك وللمسلمين…” .

لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد:
ومن أسباب الضبط الإداري التزام مبدأ: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، وقد رأى رجل عمر بن عبدالعزيز وقد أصابه الجهد من كثرة العمل، فقال له: يا أمير المؤمنين، لو تروحت وركبت. قال: كيف لي بعمل ذلك اليوم؟ قلت: يكون في اليوم الذي يليه؟ قال: حسبي عمل يوم في يومه، فكيف بعمل يومين في يوم…” .

تجديد الدماء في المنصب الإداري:
ومن الأساليب الناجحة في تقوية الضبط الإداري أسلوب تدوير القيادات الإدارية، والذي استخدمه الخلفاء المسلمون على مر العصور وأثبتت النتائج إيجابيته في علاج الفساد الإداري، وكشف أية خرق في النظام من قبل المدير السابق .
وبن الأفضل أن لا يطيل في المنصب القيادي حتى تتجدد الدماء ، وهو ما يطلق عليه الآن بضرورة تداول المنصب، وتحديدها بفترة معينة، وقد قال أبو حنيفة رحمه الله بضرورة توقيت ولاية القضاء بسنة لسببين:
• حتى لا ينشغل عن تحصيل العلم
• وحتى لا يتعرض للفتنة والغرور .