لفضيلة الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الحمد لله، الذي بعث محمدًا بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كلّه، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليما مزيدًا.
أما بعد:
فأسأل الله جلّ وعلا لي ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، والقلب الخاشع، والدعاء المسموع، اللّهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علمًا وعملاً يا أرحم الراحمين، ثم إني مسرورٌ بهذا اللِّقاء بالاخوة طلبة العلم، في هذا البلد المبارك، وبالشباب بعامة، لما بيننا من صلة ومحبة في الله وإنْ لم نلتق قبلُ، ولا شك أنّ العلمَ، من أقوى الروابط بين أهله، فطالب العلم لطالب العلم أخٌ وناصرٌ ووليٌّ ومحبٌ، فهم خاصة أهل الإيمان، وقد قال جلّ وعلا: {والمؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، ومن مقتضى الولاية، أنْ يحبه وأنْ ينصرهُ وأنْ يكون معه كما يحب أنْ يكون مع نفسه.
طلب العلم طريقٌ طويل، لا يكون إلاّ بترك للهو والشهوات، وإقبال جادٍ عليه، لأنّ الله جلّ وعلا، وصف وهو أصدق الواصفين، وأصدق القائلين، وصف ما أنزل على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، بأنّه قول ثقيل، فقال جلّ وعلا: {إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلا}، والقول الثقيل هو ((الكتاب والسنة)) ولهذا لما قيل للإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، في مسألة، توقف عن الإجابة فيها، قال القائلُ له: ((هذه مسألة سهلة، أو مسألة يسيرة))، فقال: ((لا تقل هذا فما في العلم صغر أو كَبُر شيءٌ يسير أو شيء سهل، لأنّ الله جلّ وعلا وصفه بأنه ثقيل: {إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً})).
وهذا الفهم العظيم، هو أول درجات الصعود في طلب العلم، أنْ تفهم أنّ العلم كلّه ثقيل، فكل مسألة من مسائل العلم، تحتاج منك إلى إقبال بقلبٍ، وفهمٍ مستقلٍ، فمن قال هذه مسألة سهلة نمرّ عليها وعنها مرور الكرام، فإنّه لن يحصِّل العلم حتى يكون العلمُ عنده سواء، بكلياته و جزئياته، بقواعده وفروعه، بأصوله وتفريعاته، سواء من جهة العناية به، سواء من جهة تحصيله، وترديده وحفظه، وتثبيته فالعلم، إذا تركته تركك، وإذا أقبلت عليه أعطاك بعضه، كما هو معلوم في المقالة المشهورة: ((العلم إنْ أعطيته كلّك أعطاك بعضه، وإنْ أعطيته بعضك لم تدرك منه شيئا)).
وهذا واقع مجرب. هذه المحاضرة، عنونت: ((بالمنهجية في قراءة كتب أهل العلم))، وموضوعها مهم، لأنّ كثيرين قرءوا كتبًا متنوعةً، لكن تجيء الشكوى منهم، متواترة بأننا لم نحصِّل علمًا راسخا مقعدًا، لم نضبط العلم بحيث نطمئن إلى هذا العمر الذي بذلناه في العلم، وهذا تجده عند كثيرين؛ لأنهم قرءوا مدة طويلة وربما حضروا بعض الدروس عند أهل العلم، وربما كتبوا الكتابات أو البحوث أو ألّفوا، ولكن في قرارة نفسه يدرك أنّه لم يحصل من العلم ما به تتميز مسائله، وما به يتضح المُشْكلُ منه، فلهذا جاءت هذه المحاضرة، وكانت مهمة لأنه لابدّ من منهج مضبوطٍ للقراءة في كتب أهل العلم، ومن لم يسر في حياته كلّها على منهج منضبط يرجعُ إليه، فإنّه سيترك الطريق الواضح، وسيأخذ بالطرق المختلفة.
كتب أهل العلم، إذا نظرت إليها في هذا الزمن وجدتها تصل إلى عشرات الآلاف في الفنون المختلفة، فهل العلم كثير، بكثرة هذه الكتب؟
الجواب: ما وصفه وأجاب به الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال: ((العلم نقطة كثرها الجاهلون))، يعني أنّ أصل العلم، الذي فقهه الصحابة رضوان الله عليهم قليل، هو فقه الكتاب وفقه أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قليل بالنسبة إلى ما كَثُرَ في زمن علي رضي الله عنه من كثرة المسائل والتفريعات التي لا يحتاج إليها الناس، وكلّما ازداد الناس بعدًا عن الزمن الأول، احتاجوا إلى ازدياد العلم، أو ازدياد الكتب لأجل أنْ يفقهوا -كما قال العلم نقطة كثرها الجاهلون، فلأجل وجود الجهل وأهله كثر التأليف وكثر التصنيف، لأجل أنْ يبسط العلم لأهله، وبه أهله يهدون الجاهل ويرشدون الضال، كذلك إذا تقدمت في الزمن وجدت أنّ الكتب في أول زمان الإسلام قليلة، ثم تكثر شيئا فشيئا، وهذه الكتب تنوعت بتنوع العلوم والفنون، فأوّل ما دوِّن من الكتب، الحديث، هو أول ما دون بعد القرآن العظيم، دونت السنة، على اختلاف أنواع التدوين ما بين صحائف محدودة، إلى أشياء كثيرة، ثم تلاها تدوين التفسير عن ابن عباس رضي الله عنه كما هو معلوم في الصحيفة الصادقة التي رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، والتي قال فيها الإمام أحمد رحمه الله إنّ بمصر صحيفة في التفسير، يرويها علي بن أبي طلحة، لو رحَلَ رجل لها ما كان كثيرًا، وهذه الصحيفة صادقة صحيحة عن ابن عباس وإنْ لم يلق عليُّ بنُ أبي طلحةَ ابنَ عباس، كما هو معلوم، فهي مروية بالوجادة عن مجاهد عن ابن عباس، كما حرّره الحافظ ابن حجر أول التفسير من كتاب فتح الباري.
جاءت مصنفات في التوحيد -في العقيدة- لما ظهر أهل الفرق، لما ظهرت الفرق المختلفة من خوارج ومرجئة، جاءت الرسائل ومختصرات التصنيف إمّا في كتب أهل الحديث، وإما مفردة شيئا فشيئا، ثم توالى الزمان، حتى صار لك فنٍّ كتب كثيرة، وإذا أردنا أنْ نضبط المنهجية في قراءة كتب أهل العلم، فإننا نقسِمُ ذلك إلى قسمين:
الأول: منهجية عامة تصلح للضبط في قراءة أي نوع من كتب أهل العلم، سواءٌ أكان في العقيدة أمْ كان التفسير أم الحديث أم الفقه إلى آخر الفنون الأصلية، والمساعدة، فالعلوم الأساسية والعلوم الصناعية كلها ثمَّ ضوابط عامة يمكن أنْ تسير عليها في منهج واضح تضبط به العلم المنتشر في تلك الكتب، وثمَّ ضوابط خاصة بكل علم، التفسير له قواعدُ تحصل علمه، وله قواعد ضبط التفسير من حيث هو، الحديث كذلك، العقيدة كذلك، إلى آخر الفنون…
القسم الأول: الضوابط التي تصلح لجميع كتب أهل العلم نقدم لها بمقدمة، وهي أنّ العلم الشرعي ينقسم إلى قسمين، علم مقصود لذاته، وعلم مقصود لغيره، أما العلم المقصود لذاته فهو علم الكتاب والسنة، فقه كلام الله جلّ وعلا، وفقه حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذان العلمان هما المقصودان بالأصالة، وبهما يُمدَحُ أهل العلم، {يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}، يعني الذين فقهوا عن الله جل وعلا مراده وعن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مراده، علم الكتاب وعلم السنة فيه التوحيد، وفيه الحلال والحرامُ، فرجعَ الأمرُ إذًا إلى علمين، ألاَ وهما علم العقيدة، والتوحيد، وعلم الحلال والحرام، الذي هو الفقه، هذا العلمان التوحيد والفقه، مقصودان لذاتهما؛ لأنّه بالتوحيد يتحقق الإخلاص، وعبادة الله جلّ وعلا وحده دون ما سواه، والإيمان بأركان الإيمان حقّ الإيمان، وبالفقه يكون الامتثال في الأمر والنهي، لأنّ الله جل وعلا، جعل دينه أخبارا وأوامر ونواهي، فالتصديق بالأخبار، هو الاعتقاد، وامتثال الأوامر والنواهي، هو امتثال العمليات، كما قال جلّ وعلا: {وتمت كلة ربك صدقًا وعدلا}، صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأمر والنهي، فإذًا العلمان المقصودان لذاتها في طلب العلم هما التوحيد والفقه، والمقصود لغيره من الفنون ما كان من العلوم الصناعية المختلفة، علوم العربية بعامة ليست مقصودة لذاتها، علم النحو علم الصرف، وعلم المعاني والبيان، والبديع، وعلوم البلاغة المختلفة، وعلوم الاشتقاق وهي ضمن الصرف، ومفردات اللغة، وأشباه ذلك، وكذلك أصول الفقه، أصول الحديث، السيرة، هذه كلّها مقصودة لغيرها، ليس طلبها مقصودًا لذاته، يعني أنّ طالب العلم إذا قرأ هذه الفنون فإنما يقرأها للتوصل إلى العلمين المقصودين، ألا وهما علم التوحيد وعلم الفقه، فقه الكتاب والسنة، فإذا رامَ أنْ يجعل الوسيلة غاية، فإنه لا يكون فاقهًا الكتاب والسنة، وإنّما يكون قام ربما بفرضٍ كفائي في تعلم وسيلة مساعدة لفقه الكتاب والسنة، هذا النوع بعامة
-العلم المقصود لذاته والمقصود لغيره- كتُبُهُ كثيرةٌ متنوعة كما قلنا هذه منهجية تشمل الجميع، فأول الضوابط في ذلك، أنْ تعلم أنّ كتب أي علم من العلوم تنقسم إلى كتب مختصرة، (متون)، وإلى متوسطة، وإلى منتهية، إلى شروح كبار، فأي علم من العلوم، التفسير، شروح الحديث بل الحديث نفسه، والفقه، والعقيدة، إلى آخر ذلك، كتبه ما بين مختصر ومطوّل، من رامَ المطول قبل المختصر، فقدَ منهجيةً مهمة، في استقرار الأصول، والمختصرات لها فائدة، وفائدتها تثبيت أصول العلم، والبناء كما هو معلوم يحتاج إلى أساس قبل تشييد ارتفاعه، فالمختصرات طريق للكتب المتوسطة، طريق للكتب المطوَّلة، فإذًا من لم يحكم المختصرات فلا يديمنّ النظر في المطوّلات، وإنما المطولات في أي فنٍّ من الفنون يُحتاج إليها في معرفة ما أشكل من المختصرات، فالمطولات بالنسبة للمختصرات، كالعلوم الصناعية بالنسبة للعلوم الأساسية، يعني أنّ ابتداء طالب العلم والمتوسط أيضا لا يكون بالكتب المطولات، فإذا لا يحسنُ أنْ نسمع من بعض طلبة العلم المبتدئين أنْ يقول قرأت كتاب فتح الباري، وقرأت المغني، قرأت المجموع شرح المهذب، قرأت المحلى، قرأت نيل الأوطار، إلى آخر ذلك، هذا لا يحسن؛ لأنّه وإنْ قرأ فسيؤول به الأمر إلى عدم التحصيل، سيكون ثمَّ معلومات متناثرة، في قلبه لا يجمعها زمام، ولا يربط بينها رابط، هنا لابدَّ إذًا كمنهجية في القراءة أنْ تبدأ بالمختصر، ثم المتوسط، ثم المطوَّل، في تأسيسك، لكن إنْ أردتَ مراجعةَ مسألة، فتراجعها في أيّ كتاب شئتَ، في المطول أو المتوسط أو غيره، لكن كتأسيس في طلب العلم، لابدّ من رعاية الاختصار، قبل المتوسط، قبل المطوَّل، وما أحسن صنيع الموفق ابن قدامة رحمه الله، إذ ألف في الفقه ما يمثل هذا المنهج، فألَّفَ مثلاً كتاب العمدة في الفقه، المعروف وهو كتاب مختصر، أطول منه قليلا المقنع وله منهج، أطول منه الكافي وله منهج، والمنتهي يقرأ المغني، وسمعت الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله تعالى مرّة يقول: ((إنّ الموفق ابن قدامة رحمه الله سبق المدارس الحديثة، فجعل العمدة في الفقه للمستوى الابتدائي، والمقنع للمستوى المتوسط، والكافي للمستوى الثانوي، والمغني للمستوى الجامعي))، طبعًا بالنسبة إلى أهل العلم الذين يدركون هذه الكتب، وإلاّ فربّما قرأ بعض من في المستوى الجامعي الآن، العمدة ولم يدرك أكثره، فإذًا من المهم في المنهجية في القراءة، أنْ يكون ثمَّ تفريق ما بين التأسيس والاطلاع، وهذه مرة كلمة قلتها وسجلت وهي مهمة لو رُجِعَ إليها، وهي: ((الفرق ما بين العقد والملح في العلم))، العلم منه عُقَد يصار إليها ومنه ملح مساندة، فمن رام المُلح وترك عقد العلم، فإنّه لن يدرك بل سيكون عنده أخبار كثيرة ومعلومات أو ثقافة لكن لا يستطيع أنْ يتكلم بوضوحٍ في مسألة عقدية، أو في مسألة فقهية، فإذًا أول المنهج العام في قراءة كتب أهل العلم بعامة، أنْ يكون ثمَّ انتقال من المختصر إلى المطوّل وهذا يتفرّع بتفرع الفنون المختلفة.
الثاني: أنْ يكون القارئ منتبهًا إلى مذهب الإمام أو المؤلف، فالعلماء ألّفوا كتبًا ولكن ألفوها بحسب نزْعَةِ كلّ منهم، من جهة مذهبية، فمنهم من هو من الحنابلة، ومنهم من هو من الشافعية، ومنهم من هو من الحنفية، ومنهم من هو من المالكية، وكذلك منهم من صفى مشربه في السنة، ومنهم من صار عنده صواب كثير وغلط قليل في السنة، ومنهم من خلط سنة وبدعة إلى آخر ذلك، فمعرفة هذا المؤلِّف، والمُؤَلَّف، مهم قبل الإقبال عليه، وهذا لابدّ منه، لأنّه قد يتأثر القارئ، بمؤلف وهو لا يدري إلى أيِّ شيء نزع.
فمثلاً بعض طلبة العلم، يرجح دائما ما في (شروح كتب الحديث) على ما في الشروح المطولة في كتب الفقه، لأنّ شارح الحديث عندهم أكثرا استقلالا وأميل للاجتهاد من الذي ألَّف في الفقه، فينظر إلى أنّ ترجيح صاحب كتاب الحديث أوثق من ترجيح صاحب كتاب الفقه، هذا ليس صوابًا على إطلاقه، بل نجد أنّ شرّاح الحديث نزعوا في ترجيحاتهم إلى مذاهبهم، فمثلا، تجد أنّ الحافظ النووي في شرح مسلم رجَّح ما يرجحه الشافعية، وإذا دخل أيضا في استدلالٍ، وتطبيقٍ لأصول الفقه، فهو يطبق أصول الفقه الشافعية، فينظر الناظر إلى أنّه إذا قال في مسألة ما هذا الحديث صحيح، وهذه المسألة الراجح فيها كذا، لمجيء الحديث الصحيح بها، فيرجح من جهة ترجيح النووي، المنبني على صحة الإسناد، وهذا صحيح في كثير من المسائل، وغيرُ صحيح في بعض لهذا نجد أنّه رجح أشياء في مسائل الصواب خلافُها، لم؟
لأنّ صحة الإسناد، أو صحة الحديث، ليست كافية في الفقه، بل الأهم منها، أنْ ننظر في وجه الاستدلال من الحديث على المسألة وجه الاستدلال، يعني الاستنباط، كيف استنبط الحكم من المسألة، استنباط الحكم من الدليل، هذا يُرجع فيه إلى أي علم؟!
إلى أصول الفقه، الحكم بصحة الإسناد يرجع فيه إلى مصطلح الحديث وإلى علم الرجال، في كلا الأمرين المصطلح والرجال، وعلم أصول الفقه، هذه كلّها لها تبعات ولها خلفيات سابقة، فتجد أنّه رجّح صحة الإسناد لمذهبٍ له في الإسناد.
فمثلاً، تجدُ أنّه يرجح صحة الترجمة المعروفة ((عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه))، أو يرجح صحة ((بهز بن حكيم عن أبيه عن جده))، أو ما أشبه ذلك، وغيره قد ينازعه في ذلك، كذلك من جهة رجل، هل هو ثقة أم ليس بثقة، هل هو صدوق أم هو يهم، هل هو مقبولُ الرّواية في هذا الباب أم ليس بمقبول الرواية، هل هو مقبول الرواية عن هذا الشيخ أم ليس بمقبول الرّواية وهذا مما يدخل في علم علل الحديث.
المسألة الثانية: أصول الفقه إذا صح الإسناد، وصح الحديث، فكيف نستنبط الحكم من الدليل لابدّ من استخدام أصول الفقه فيأتي استخدام أصول الفقه في بعض الأحيان موافقا لمذهب المؤلف، فينظر الناظر ويقول هذه المسألة رجحها الحافظ ابن حجر، رجحها الحافظ ابن حجر بناءً على مذهبه في أصول الفقه، فيأتي الناظر، ويقول الدليل كذا وصحّح إسناده الحافظ أو صححه الحافظ في الفتح أو في البلوغ، ورَجَح كذا لكن المسألة لا تقف عند هذا الحد، بل لا بد من النظر في أصول الفقه التي بها استنبط الشارح الحكم في المسألة، ولهذا نقولُ إنّ بعض المسائل، جاء الخَلل فيها من جهة العقيدة، من جهة عدم إحسان تطبيق أصول الفقه، أو من جهة عدم معرفة هدي السلف، أو من جهة أنّ المؤلف لم يكمل الآثار في هذا الباب، وهذا متنوعٌ كثير، فتجد مثلاً الحافظ النووي، عنده أشياء حتى في كتاب رياض الصالحين، في كتاب رياض الصالحين عقد بابًا في كراهة الحلف بالأمانة وبتربة فلان وبقبر فلان، والحديث الذي استند إليه قوله عليه الصلاة والسلام: ((من حلف بغير الله فقد أشرك))، واستند أيضا إلى ما صح في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: (( من حلف بالأمانة فليس منّا))، فيأتي الناظر ويقول النووي قال: يكره، ما دليل النووي؟ أتى بالدليل الذي فيه قوله عليه الصلاة والسلام ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، ويدخل في عموم قوله من حلف بغير الله الحلف بالقبر أو بالتربة أو بالأمانة، إلى آخر ذلك، فإذًا هناك بونٌ شاسعٌ ما بين قوله مكروه، وما بين قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، وقوله: ((من حلف بالأمانة فليس منا))، ومن المتقرر عند المحققين من أهل العلم أنّ قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ليس منّا من فعل كذا)) أنّه يدلّ على التحريم كما هو مقرر عند الجمهور في تحقيق أصول الفقه، إذًا الترجمة شيء والاستدلال شيءٌ آخر، لو ناقشنا النووي لمَ ذهبتَ إلى الكراهة؟ ما ندري بمَ يجيب؟ لكنْ أظنّ أنّه نزع إلى شيء عنده في أصول الفقه، به فهم قوله: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، أنّ المقصود به كفر النعمة أو الشرك الأصغر، وهذا يدخل في كراهة التحريم، ولم يطلق كراهة التحريم، وإنّما أطلق الكراهة دون التحريم، المقصود من هذا أنْ تنتبه إلى الفرق ما بين وجه الاستدلال وما بين حكم صاحب الكتاب، وهذه مسألة كبيرة تدخلك في أنواع من البحث في قراءة كتب أهل العلم.
فإذًا ضابط عام، فيما تقرأ من كتب أهل العلم أنْ تتبين منهج المؤلف، فليس كلّ عالمٍ رجّح مسألة، تكون راجحة في نفس الأمر، بل لابدّ لرجحان مسألة، من صحة الدليل، ورجحان الاستدلال، من الفروق المهمة في قراءة كتب أهل العلم، وفي طلب العلم ألاّ يظنّ الظان أنّ الراجح في المسائل العلمية يكون راجحا لمجيء الدليل لقولٍ، وعدم مجيء الدليل لقول آخر، هذا قليل، وهذه هي المسائل التي تسمى مسائل الخلاف، هي ليس الكلام فيها، وإنّما أكثر الخلاف مجيء دليل، ينزع المجتهد الأول منه بوجه من الاستدلال، وينزع المجتهد الثاني منه بوجه استدلالٍ آخر، متى يكون الاستدلال راجحًا؟ ويكون القول في المسألة راجحًا؟ إذا كان الاعتراض على الاستدلال الأول أقل من الاعتراض على الاستدلال الثاني، تجد مثلا إذا نظرت مثلا في نيل الأوطار أو فتح الباري أو المجموع أو المغني، أو غير ذلك، ترى أنّ هذا الإمام ينزع من نفس الدليل إلى حكم، والآخر ينزع إلى حكم آخر من نفس الدليل، وهذا راجع إلى اختلاف المجتهدين، متى يكون القول راجحا؟ نرجح الأول أوالثاني؟! ليست المسألة مسألة أهواء ولا شهوات، يرجح ما كان الاعتراض عليه من القولين أقل، وإلاّ فلا تتصور أنّ ثمة مسائل كثيرة في العلم الراجح فيها راجح مطلق، بمعنى أنْ يكون الأول صوابًا تاما، والآخر غلطا تاما، هذا قليل في مسائل العلم، والأكثر أنْ يكون هذا عنده وجه استدلال، وهذا عنده وجه استدلال، لكن الاعتراض على أحد الاستدلالين أكثر من الاعتراض على استدلال الإمام الآخر، فيكون ما قلّ عليه الاعتراض راجحًا وما كثُر عليه الاعتراض مرجوحا.
الضابط الثالث: من الضوابط العامة في المنهجية، أنْ ينتبه طالب العلم، إلى المسألة التي يقرأها في فَهْم بلغةِ أهل العلم، وهذا يحتاج إلى شيء من التفصيل:
ذلك أنّ لغة أهل العلم، بها ألفت العلوم فمن نظر مثلا في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بما يفهمه من لغته الدارجة أو من لغة الجرائد أو من لغة الثقافة العصرية، فإنّه سيخطئ في كثير من المسائل، في فهمها، في فهم مراد شيخ الإسلام من كلامه، لأنّ أهل العلم على اختلاف العصور دونوا العلم بلغة العلم، لم يدونوا العلم بلغتهم في زمانهم حتى يتواصل العلم ويلحق الآخر بالأول في فهم العلم، فإذًا العلم له لغة، العلم له مصطلح، العلم له ألفاظ، يجب أنْ يفهم العلم بالوعاء الذي احتوته تلك الألفاظ، فالألفاظ وعاءٌ للمعاني فكل لفظ، في كتب أهل العلم لا يسوغُ أنْ يفهم بما عند القارئ من المقررات السابقة، لأنّه إذا فهمه على هذا الأساس فإنه سيفهم العلم على غير مراد أهله، وهذه مهمة جدًّا، وإنما تدرك بطلب العلم عند أهل العلم، كيف أو ما مراد العلماء في الفقه بهذه الكلمة؟ و هذه الكلمة؟ وهذه الكلمة؟ ما مرادهم في العقيدة بهذه الكلمة؟ وهذه الكلمة؟ وهذه الكلمة؟ ما مرادهم في النحو؟ إلى آخره.
فألفاظ العلم ألفاظ رعاها العلماء، وهكذا ينبغي على كل طالب علمٍ درّس أو تلقى العلم أنْ يجتهد في التعبير عن العلم بلغة أهله، فإنْ عبر عن العلم بغير لغة أهله، فإنّه لن يكون متصلا مع من سبقه بسبب وثيق، وكذلك من فهم كلام أهل العلم على غير ما تقرره لغة أهل العلم، فإنه لن يدرك.
الضابط الرابع من الضوابط العامة: أنّ كتب أهل العلم المطولة والمتوسطة والمختصرة، تحتاج من القارئ ومن طالب العلم إلى تدوين للمهم منها، فالقراءة وحدها غير مجدية، فلابد مع القراءة من تدوينٍ وكتابة، وكم سمعنا في كتب أهل العلم، وفيما خلّفوه مختصرات للكتب، تجد مثلا العالم الفلاني اختصر الكتاب الفلاني، واختصر الكتاب الفلاني، واختصر الكتاب الفلاني، لمَ؟
هل هو رغبة في الاختصار من حيث هو؟ لا، الاختصار نوعٌ فهمٍ للمختصر، ولذلك انتخاب طالب العلم من كتب أهل العلم ما ينفعه في فهم العلم هذا مهم فتأخذ مثلا في قراءتك في المختصرات أو في المطولات تأخذ الفوائد لتجعلها في كُنَّاشَةٍ مستقلة، في دفتر مستقل، وهذه الفوائد تترقى معك، بترقي عمرك في طلب العلم، فستجد يومًا ما بعد سنين عددا، أنّ ما كتبته في أول الطلب مع أنه كان عندك أعَزّ من بيضِ الأنُوق في الفائدة، ستجد أنّه لا شيء، لأنّه صار عندك واضحا جدا، بحيث إنك تقول كيف كتبت أول عمري هذه الفائدة فمثلا واحد يكتب الفرق بين السنة والمستحب، بعد سنين يرجع كيف أنا أفرق بين السنة والمستحب!! يعني هذه المسألة واضحة ما تحتاج إلى أنْ تكتب فائدة، من كتب أهل العلم، مثلا يكتب هل المباح من الأحكام التكليفية أو خارج عن الأحكام التكليفية، فائدة ينقلها من كتاب أصول أو كتاب قواعد، وهذا يجد في يوم ما أنّ هذه المسألة لا تستحق أنْ تدون.
القواعد انقسامها إلى قواعد كلية وإلى قواعد جزئية، والجزئية انقسامها إلى كذا وكذا في قواعد الفقه، هذه سيكتبها يوما ما ثم بعد ذلك يقول هذه لم أحتج أنْ أكتبها، لظنه أنها صارت واضحة عنده، فمن سهولتها قال لا احتاج إلى كتابتها، وهذا غير صحيح فإنما تتضح بالانتخاب، يعني أنّك إذا قرأت كتابا، فاجعل دائما بجنبك الدفتر والقلم، واكتب الفوائد التي تمر بك، اكتبها تارة بالعنوان، ترجع إليها في وقت فراغك وتملي، وتارة تكتبها بالتفصيل حتى تراجعها مرّةً وثانيةً وثالثةً، فإذا اتضحت، صار ما بعدها من العلم أيسر، كما تعلّم الصغير ألف باء تاء ثاء، فإنّ العلم كذلك يحتاج إلى تعود، هذه بعض الضوابط العامة في قراءة كتب أهل العلم بعامة.
وسبق أنْ ألقيت كلمة بعنوان: ((كيف تقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية))، مؤلفات شيخ الإسلام العقدية، ومؤلفات شيخ الإسلام الفقهية، سواء من الرسائل والقواعد والأصول في هذا العلم أو من هذا العلم، أومن الكتب الكبار، ((كيف تقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية)) هذه آمل أنْ يرجع إليها الأخ لأنها تفصيل وهي طويلة بعض الشيء، تفصيل لضوابط عامة في قراءة كتب شيخ الإسلام رحمه الله، وهي تنطبق أيضا في جمل منها على غالب كتب شيخ الإسلام.
إذا تبين ذلك، فالقسم الثاني ممّا يحتاج فيه إلى تبيين المنهجية، التفصيلات بالنسبة للفنون، يعني كيف نقرأ كتب التفسير، كيف نقرأ كتب العقيدة، كيف نقرأ كتب الفقه، كيف نقرأ كتب الحديث إلى آخره، تلك ضوابط عامة، ونأتي الآن إلى ضوابط خاصة لكل فن من الفنون.
نبتدئ بالتفسير لأنّه شرح كلام الله جلّ وعلا، وفَسْرُه، وبيان تأويله، التفسير لا شك أنّه من العلوم المهمة بل هو أصل العلوم، لأنه فقهُ القرآن والله جلّ وعلا قال لعباده: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، {كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} والآيات في الأمر بالتدبر متنوعة، التفسير كتبه منها المختصر ومنها المطول لكن كيف يترقى طالب العلم في فهم التفسير، كيف يقرأ كتبه منهم من يقرأ المطولات من كتب التفسير دائما وهذا ينطبق عليه ما ذكرناه قبل ذلك.
المنهجية العامة لتحقيق هذا العلم، أنْ ترتب القراءة فيه على هذه المراتب:
أما المرتبة الأولى: فهي معرفة الوجوه والنظائر في التفسير، فالتفسير بيان لمعاني القرآن، القرآن ثمَّ فيه كلمات كثيرة تكررت في السور فقد تكون الكلمة لها معنى في سورة البقرة، والمعنى نفسه في سورة آل عمران وتمشي إلى آخر المصحف، وهذه ما تسمى بالكلمات ذات المعنى الواحد، وهناك كلمات لا، الكلمة واحدة ولها عدة معاني في القرآن، وهي التي تسمى الوجوه والنظائر أو الأسماء المتواطئة والمُشْتَرَكَة، معرفة المفردات هذه مهمة، ومعرفة المفردات تكون بقراءة كتب الوجوه والنظائر، وكتب مفردات القرآن، أما الوجوه والنظائر فمن أمثَلها كتاب ابن الجوزي رحمه الله: ((الوجوه والنظائر)) وهو من الكتب المفيدة في هذا الباب، يقول لك مثلا: كلمة ((السماء)) جاءت في القرآن على معنيين، ((الأرض))، جاءت في القرآن على ثلاثة معانٍ، ((الدابة)) جاءت في القرآن على كذا معنى، ويقدم قبل هذا بمقدمة يبين لك فيها الأصل العام لمعنى هذه الكلمة.
الخُطوة الأولى إذًا في قراءة التفسير أنْ تطلب معنى الكلمات التي يكثر ورودها في القرآن لأنّك إذا ضبطت هذه الكلمات فإنها تتكرر في التفسير فتريح قلبك وعقلك من دقة النظر والحفظ حين قراءة كتب التفسير، وتروح تهتم بشيء آخر، وكذلك مفردات القرآن، ومن أمثلها على غلطٍ عنده في الاعتقاد، وانتمائه إلى مذهب المتكلمين، كتاب ((مفردات القرآن)) للراغب الأصفهاني، وهو من أمثل الكتب في معرفة معاني المفردات.
المرتبة الثانية: في قراءة كتب التفسير أنْ ترجع في التفسير إلى اشتقاق الكلمات يعني أنْ تضبط الكلمة هذه من أين اشتُقَّت في اللغة، وتبحثها بحثًا لُغَويا لأنّ بحث الكلمات بحثا لغويا، يقوي الملكة وما يحفظ والمحفوظ في علم التفسير.
المرتبة الثالثة: أنْ تنظر إلى كتب التفسير، وكتب التفسير كما هو معلوم منقسمة إلى مدرستين:
– مدرسة التفسير بالأثر.
– ومدرسة التفسير بالرأي، ومدرسة التفسير بالرأي أيضا لها عدة أقسام منها ما هو من ثوابت الرأي المحمود، يعني الاجتهاد والاستنباط، المقبول، الذي له أُسُسه، المقبولة شرعا، ومنها ما فسر القرآن برأي مجرد يعني بغير حجة، إما في الاعتقاد أو في غيره.
فكتب التفسير إذًا على قسمين كتب التفسير بالأثر وكتب التفسير بالرأي، كتب التفسير بالأثر، نعني بها الكتب التي تمحظت في نقل الآثار، فيأتي في التفسير هذه فسرها ابن عباس كذا وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير مثلا، وابن مسعود وعلقمة إلى آخر ذلك، به قال فلان وفلان وفلان يعني نقل أقوال السلف في التفسير تسمى التفسير بالمأثور، من المهم الطالب العلم، قبل أنْ يقرأ في كتب التفسير بالرأي المحمود، مثل تفسير القرطبي، أو تفسير الألوسي أو تفسير كذا وكذا من الكتب، سواء كانت من مدرسة التفاسير الفقهية أو الموسوعية، قبل أنْ يقرأها لابدّ أنْ يطالع قول السلف في التفسير لمَ؟
لأنّه من المتقرر عند أهل العلم بعامة أنّه لا يجوز أنْ يعتقد أنّ صوابا في مسألة من مسائل التفسير يحجب عن الصحابة والتابعين، ويُدْرِكُ هذا الصواب من بعدهم؛ لأنّهم هم الذين نزل عليهم التنزيل، أعني الصحابة، فنقوله إلى من بعدهم، فكل تفسير يضاد، -وألحظ أنني أقول يضاد، ولا أقول يخالف- تفسير السلف فإنه قطعًا غلط؛ لأنّه لا يجوز أنْ يُعتقدَ أو يظنّ أنّ ثمة صوابا في التفسير يُحجب عن سلف هذه الأمة لأنه لا يجوز أنْ نقول أو نظن أنّ كلمة من القرآن جهلها الصحابة وأدركها من بعدهم، فسرها الصحابة بتفسير ويأتي المتأخر فيفسرها بتفسير مضاد له ويكون الصواب مع المتأخر هذا قطعا ممتنع.
ولهذا نقول في أساسيات قراءة كتب التفسير أنْ تبدأ بقرأءة التفسير بالمأثور، قبل التفسير بالرأي، أنْ تطالع آثار السلف في الآية، قبل أنْ تنظر في اجتهادات المتأخرين التي تكون مبنية على العلوم المختلفة، النحو ومفردات اللغة وأصول الفقه إلى غير ذلك… كتب التفسير بالأثر متدرجة، عندك صحيفة علي بن أبي طلحة التي ذكرنا مهمة انْ تقرأ تفسيرها أول ما تقرأ ثم تفسير عبد الرزاق وهو مطبوع في أجزاء قليلة، ثم تفسير ابن جرير، تفسير البغوي، تفسير ابن كثير إلى آخره، هذه مدرسة التفسير بالأثر ثم مدرسة التفسير بالرّأي يعني بالاجتهاد والاستنباط، وأكثرهم استخدموا علوم الآلة يعني اللغة والمفردات في التفسير هذه وهذه فإذا ضبطت أقوال المفسرين ومشيت ومعها خَطوة فخطوة، ترجع إلى التفسير بالرأي -لا بأس-، يكون عندك منهجية صحيحة تدرك بها الصواب من غيره في التفسير.
العقيدة كيف تُقرأ كتب الاعتقاد؟ العقيدة في الأصل واضحة هي بيان أركان الإيمان، {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}، فالإيمان بأركان الإيمان الستة سهل واضح تقبله الفطرة، لكن لما شاع الخلل في ذلك، ألّف أهل العلم كتبا في الاعتقاد، وهذه الكتب عند السلف على قسمين منها:
كتب أوردت الاعتقاد إيرادًا إجماليا، ومنها كتب فصلت كل مسألة من مسائل الاعتقاد، فألف في الإيمان وحده عدة مؤلفات، أُلِّفَ في القدر وحده عدة مؤلفات، ألّف في الكتاب -يعني في القرآن- عدة مؤلفات، وهكذا فإذًا كتب الاعتقاد، منها ما عرضت فيه العقيدة بعامة، ومنها ما عرض فيه موضوع من موضوعات العقيدة طبعا يمشي معك ما ذكرناه أولا من التدرج بقراءة المختصر ثم المتوسط ثم المطول من الكتب وهذا ذكرناه في محاضرة بعنوان: ((المنهجية في طلب العلم))، يمكن أنْ ترجع إليها بتفصيل إذا سرت في فهم مختصرات العقيدة، فهل هذه هي النهاية؟
بعض طلبة العلم يرى أنّ الأكثر فائدة أنْ يقرأ في الكتب المطولة في العقيدة، يقرأ مباشرة في فتاوى شيخ الإسلام، يقرأ مباشرة في في (الإيمان) لابن منده، يقرأ مباشرة في كتاب (التوحيد) لابن منده، مثلا أو الكتب المتقدمة أو في (الشريعة) للآجري أو في كتاب اللالكائي، وهكذا، وهذه الكتب لا شك أنّها أصلت مذاهب السلف لكن مذاهب السلف وأقوالُهم تفرقت بحيث إنّ المؤلفين الأقدمين لم يجعلوها متواليةً في انضباطٍ تأليفي واضح في مؤلفاتهم القديمة، فأتى المتأخرون من أهل العلم والسنة، كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة، وغيرهما، أتوا فلخصوا هذه العقائد في كتب مختصرة ومتوسطة لابدّ لفهم كلام السلف من فهم هذه الكتب، فإذًا الطريق إلى فهم المطولات، أنْ تفهم مختصرات الاعتقاد، مثل (الواسطية) لشيخ الإسلام و(الحموية) و(لمعة الاعتقاد) لابن قدامة وهكذا في كتبٍ كثيرة مختلفة إذا ضبطت الكتب هذه، يمكن أنْ ترجع إلى الكتب المتقدمة على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أنْ يكون الاطلاع على المطول عند تقرير المسألة المختصرة، يعني مثلا، تأتي مسألة الإيمان في العقيدة، هل الإيمان قول وعمل واعتقاد أم أنّه قول واعتقاد دون عمل؟ المسألة المعروفة بالخلاف ما بين أهل الحديث والسنة ومرجئة الفقهاء، الفرق بين هذا وهذا يكون في الكتب المختصرة لَمْحَة عنه، لكن تفصيله يكون في المطولة، إذا احتجت إلى تفصيله تذهب إلى الكتب المطولة بخصوصها، هذه المرتبة الأولى، ويتبع هذه أنْ تنتقل من مرتبة المختصر بعد إحكامه إلى المطول بعامة، يعني إذا قرأت مثلا العقيدة وضبطتها -على المنهجية فيها- بقراءة المختصر ثم المتوسط إلى آخره على نحو ما سبق إيضاحه، فإنك تنتقل إلى كتب المتقدمين لقراءتها من أولها إذا ضبطت شروح الكتب المتأخرة فإنْ كتب المتقدمين ستَنْزِلُ كل مسألة منها منزِلها، أما إذا أخذت كتب المتقدمين دون النظر في قواعد المتأخرين التي ضبطوا بها الاعتقاد، فإنه سيكون ثم خلل كبير في فهم منهج أهل السنة وعقيدة أهل السنة، -مثال ذلك-: ما ورد في بعض كتب أهل السنة من الكلام على أبي حنيفة الإمام، رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة، هذا. لو أقبل مقبلٌ على كتب العقيدة الأولى مثل بعض كتب السنة ونحو ذلك لوجد فيها كلامًا على هذا الإمام، لم يقله أئمة أهل السنة المتأخرون، وإنّما هجروا هذا الكلام وتركوه، فلا ترى مثلا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية مقالةً سيئة في الإمام أبي حنيفة رحمه الله، مع أنّ كتب السنة المتقدمة فيها من هذا الكلام وفيها الكلام عمّا فعله وعما فعله… إلى آخره، أما الكتب المتأخرة فلا تجد فيها ذمّا للإمام أبي حنيفة رحمه الله بما في كتب الأولين، بل هُجِر ما في كتب الأولين، وقُرِر ما يجب أنْ يقرر تباعًا لمنهج أهل السنة بعامة، لأنّ المسألة تلك كانت لها فتوى بظروفها وزمانها إلى آخره، فألف شيخ الإسلام رحمه الله ((رفع الملام عن الأئمة الأعلام))، ومنهم أبو حنيفة، مع أنّ قوله في الإيمان معروف وقوله في كذا معروف لكن كما قيل في حقه إنّه لا يُنْظر فيه إلى هذه الأمور، لو قرأ قارئ في الكتب المتقدمة قبل المتأخرة فإنه سيحصل عنده خلل في الفهم، من أين يأتي الخلل؟
يأتي الخلل من جهة أنّ كلام السلف له بساط حال قام عليه إذا لم يَرْعَ المتأخرُ بساط الحال الذي قام عليه كلام السلف فإنه لن يفهم كلام السلف، يعني أنْ تعرف حال ذلك الزمان، وما كان فيه من أقوال، ومن مذاهب، ومن فتن إلى آخر ذلك، فينبني كلامهم على ما كان في ذلك الزمان، لكن المتأخر لما ترك، علمنا أنه تركه لعلة، ولهذا مثلا لما طبع الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله، ومعه بعض المشايخ في مكة لما طبعوا كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله لم يروا بأسا من أنْ ينتزعوا منه بابًا كاملا، وهذا لأجل المصلحة الشرعية التي توافق منهج أهل السنة والجماعة فانتزعوا فصلا كاملا متعلق بأبي حنيفة رحمه الله وبأصحابه، وبالأقوال التي فيهم وذمهم أو تكفيرهم، إلى آخر ذلك، انتزعوه لمَ؟
هل انتزاعه كما قال بعضهم إنّه ليس من أداء الأمانة؟ لا بل هي أمانة، لأنّ الأمانة التي أُنيطت بنا ليست هي أمانة قبول المؤلفات على ما هي عليه، وإنما هي أمانة بقاء الأمة على وحدتها في العقيدة وعلى وحدتها في المحبة، فإذ ذهب ذاك الكلام مع زمانه فإنْ تكراره مع عدم المصلحة الشرعية منه لا حاجة إليه، وهذا لا شك أنه من الفقه المهم.
بعض كلمات السلف في المبتدعة، بعض كلمات السلف في أهل الأهواء لها بِساطُ حال في الزمن الأول، وليس ذلك منطبقا على بساط الحال في الزمن هذا، ولذلك ترى أنّ بعضهم أخذ من تلك الكلمات كلمات عامة فطبقها على غير الزمان الذي كان ذلك القول فيه، ولو رأى كلام الأئمة الحفاظ والمحققين من أهل السنة، لوجد أنّه يخالف ذلك الكلام في التطبيق، أما في التأصيل فهو واقع، هذا استطراد لبيان أهمية قراءة كتب المتأخرين من أهل السنة في الاعتقاد وإِحْكامها قبل إدمان النظر في كتب السلف؛ لأنّ إدمان النظر في كتب السلف دون معرفةٍ بقواعد أهل السنة التي قعّدها أهل السنة والجماعة المتأخرون فإنّ هذا يعطي خللاً في فهم منهج السلف بعامة، وهذا له أمثلة كثيرة ربما تحتاج إلى وقت طويل.
المرتبة الثانية: معرفة أقوال المردود عليهم من كتبهم، هذا الآن منهجية للمنتهين ليس للمبتدئين في طلب العلم، يعني بعد أنْ يحكم الأصول والمختصرات، ويضبط كلام السلف، ينتقل بعدها إلى معرفة أقوال المردود عليهم من كتبهم؛ لأنّه لا يسوغ أنْ تقبَل ردًّا على مردودٍ عليه بعامة، دون أنْ تسمع أو تقرأ كلام المردود عليه إلاّ إذا كان الناقل له ثقة وهذا لا شك أنّه يكفي لكن قراءة الكتب التي منها أخذت الأقوال توضح لك المراد. فتجد مثلا أنّه يقال قال فلان كذا، ومذهب مثلا الأشاعرة في المسألة كذا، وإذا نظرت كتب القوم وجدت أنّ لهم تفصيلا، لم يحتج المؤلف إلى ذكره في هذا الموطن لكن القارئ فهمه على الإطلاق، فيحصل هناك لبس في فهم مذهب القوم، نعم نحن لا ندافع عن أهل البدع لكن الله جلّ وعلا أوجب علينا أنْ لا يجرمنّا شنئان قوم على ألا نعدل، كما قال سبحانه: {ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أنْ لا تعدلوا}، والمتخلص من هواه يكون متخلصا منه في العلم أولى منه في الحُكْمِ وفي الرأي؛ لأنّ العلم يحتاج إلى تجرد ومن تجَرَّدَ في العلم أقبل على الله بقلبٍ سليم، فينظر مثلا في أقوالهم، في القول من حيث هو حتى إذا أتى من يردّ على من ردّ عليهم، فيقول لا هذا ليس في كتبنا، فتكون أنت عنده بالحجة الدامغة يعني من كان منتهيًا في طلب على العقيدة يقول لا مذكور في الكتاب الفلاني كذا وكذا، مثل المسألة التي كثيرا ما نمثل بها، مثلا، نقول: المتكلمون والأشاعرة والماتريدية إلى آخره يرون أنّ التوحيد الذي هو الغاية هو توحيد الربوبية، لا توحيد الإلهية، يعني من آمن بوجود الله جلّ وعلا وأنّه هو القادر على الاختراع وأنّه هو الخالق هذا يكفي في تحقيق (لا إله إلاّ الله)، فيأتي قائل، فيقول هذا ليس بصحيح، ليس عند علمائنا من الأشاعرة أو الماتريدية إلى آخره ليس عندنا هذا الكلام، وإنما أنتم ترددون كلامًا، تبعًا لعلمائكم لا تدرون معناه، فتقول له إنّ كتبكم المختصرة مثل ما في السنوسية المعروفة بأصول مذهب الأشاعرة أو عقيدة الأشاعرة، قال فيها ما نصه: ((فالإله هو المستغني عن ما سواه المفتقر إليه كل ما عداه فمعنى (لا إله إلا الله) لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرًا إليه كل ما عداه، إلاّ الله))، فهنا تقوم أنت بالحجة الواضحة البينة، ثم الحظ أيضا أنك قد تنقل كلاما عن متقدم ردّ به على من تقدمه، ولكن يكون في المذهب عند المتأخرين غير ما ذكره الإمام الأول عمن تقدمه، فتكون أنت تقول كلاما يأتي صاحب المذهب المنحرف يقول: ليس عندنا كذا، وقد يشكك الناس ويرد، مثل ما حصل فعلا في عدد من المؤلفات الموجودة، فإذًا طلاب العلم المحققون الذين يزاولون التأليف بخاصة هذا لابدّ لهم أنْ يرجعوا إذا أرادوا أنْ يألفوا، وخاصة في الردود أنْ يرجعوا إلى أصول كتب الناس حتى يرووا الكلام فيها نصا حيث يكون مع ذلك القيام بالأمانة، ونقل الأقوال كما فيها، لكن أعود فأنبه أنّ هذا ليس إلاّ بعد الإحكام في الاعتقاد، لا يصلح الرجوع إلى كتبهم للمبتدئين ولا أوصيكم جيمعا بالرجوع إلى كتبهم لكن من أراد أنْ يردّ ردا صحيحًا أو أنْ يكون ذا منهجية كاملة في ذلك، فلابدّ أنْ يسير على هذا النحو.
المرتبة الثالثة والأخيرة: الاطلاع على فتاوى العلماء في العقيدة، كثير من المسائل تنظيرية في كتب الاعتقاد سواء أكانت كتب الاعتقاد المتأخرة أو كتب الاعتقاد المتقدمة، تنظيرية من الذي يطبقها على الواقع؟ المحققون من أهل العلم والراسخون من أهل العلم، فالاطلاع على فتاوى العلماء، ينقل تلك المسائل من كونها نظرية إلى كونها على بساط الحال، وبساط الواقع، فإذا المرتبة الثالثة في منهجية قراءة كتب العقيدة، أنْ ترجع إلى الفتاوى في المسائل، لتربط ما بين ما هو موجود في كتب التوحيد وما هو موجود على الواقع.
العلم الثالث، علم الحديث وعلم الحديث التدرج فيه معلوم بأنْ تُحفظ الكتب المختصرة كالأربعين النووية ثم العمدة عمدة الحديث، ثم البلوغ، بلوغ المرام، أو أنْ ينتقل من الأربعين النووية إلى البلوغ مباشرة، وينتقل بعدها إلى المنتقى إلى آخر ذلك، وهذا واضح في التدرج العام في طلب علم الحديث، لكن كتب الحديث، تحتاج منك إلى منهج واضح في قراءتها، وأعني بكتب الحديث هنا شروح الأحاديث، أما كتب الحديث التي هي المتون فهذه موجودة في الشروح، شروح الأحاديث مختلفة بحسب اختلاف المؤلفين، وبحسب اختلاف الكتب، فشروح البخاري كما هو معلوم متنوعة، شروح مسلم متنوعة، شروح أبي داود متنوعة، ولكن هناك صبغة عامة على هذه الشروح، يمكن أنْ تنضبط إذا سرتَ عليها بضابط ومنهجية مقبولة في قراءة كتب الحديث ، الأول من هذه الضوابط في قراءة كتب الحديث بخاصة أنّ المسألة الفقهية التي ذكرت في كتب الحديث يكون تفسيرها في شرح الحديث بحسب مذهب الشارح، فإذا أراد الشارح -مثلا- أنْ يعرِّف المرابحة، فسيُعَرِّفُها بما عند أهل مذهبه إذا أراد أنْ يعرِّف مثلا العروض في زكاة العروض، فسيعرفها بما عنده في مذهبه، إذا أراد أنْ يبيّن معنى الفقير والمسكين، سيبينها بما عنده في مذهبه إلاّ أنْ يكون محققا، يتوسع في كل مسألة وهذا نادر أنْ تجد من يتوسع في كل مسألة من جهة التفسير، فإذًا تفسير الكلمات تفسير المسألة، صورة المسألة، هذه ينبغي أنْ تؤخذ من كتب الفقه لا من كتب الحديث، وهذا ضابط منهجي مهم، لأنّك ترد على هذه المسألة في شروح الأحاديث، وضبط المسألة بتصويرها وبيان ما يتعلق بها ليس من واجبات الشارح، وإنّما هي راجعة إلى الفقه ففي كتب الفقه ترى تفصيل الكلام على صورة المسألة وبيان ما عليها من الضوابط أو الشروط إلى آخره، تجدها هناك، فإذًا قبل قراءة مسألةٍ ما في كتب الحديث تنظر هل فسرها هذا الشارح بتفسير يستوعب الاستدلال أو يستوعب المذاهب جميعا، ويرجح فيها، أم هو ذكر تعريفا ومرّ عليه، بل ينبغي لك أنْ لا تقبل على كتاب حديث من حيث الشرح في مسألة من المسائل إلاّ وقد تصورتها فقهيًا، تصورت المسألة من حيث هي… ليس المقصود الحكم، تصورت المسألة من حيث هي في كتب الفقه، يعني مثلا أوقات النهي عن الصلاة، هذه إيضاحها يكون في كتب الفقه من حيث التعريف والضابط وتفصيل الكلام عليها يكون في كتب الفقه وكتب الحديث، هذه المرتبة الأولى، أي أنْ تأخذ صورة المسألة من كتب الفقه قبل قراءة شرح الحديث إذا كان شارح الحديث لم يستوعب الكلام على صورة هذه المسألة، وفي الغالب كما جربت وربما جرب الكثيرون منكم، أنّ شارح الحديث يعتمد على أنّ المسألة واضحة والصورة واضحة فيبدأ يتكلم عن حكمها اختلف العلماء فيها، استدل هذا بكذا وهذا بكذا، أما صورة المسألة فلا يأتي عليها ببيان.
المرتبة الثانية: أنّ تلحظ أنّ كتب الحديث بعامة، أعني شروح الأحاديث منها ما هو تأصيلي، ومنها ما هو للمجتهد، فمثلا كتاب ((فتح الباري)) هذا للمجتهدين وإنْ كان يرجح فيه، لكن إيراده للخلاف وللترجيح وللمسائل بعبارة عالية جدًّا، من حيث صياغتها الأدبية، وصياغتها الفقهية أيضا، وغلط من قال، إنّ الحافظ ابن حجر، ليس من بابة الفقه، بل هو محدث فقيه وعبارته في ذكر الخلاف من أرفع عبارات أهل العلم لكنه يصلح للمجتهد الذي تصور الخلاف في المسائل، قبل ((فتح الباري)) فلهذا ترى مثلاً أنّ كتاب ((جامع العلوم والحكم)) هذا ينفع في تصوير المسائل وفي ذكر تأصيلاتها فيما ذُكر في الأربعين النووية للنووي رحمه الله، بعده يأتي شرح ((بلوغ المرام)) لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني المعروف، وشرحه يسمى ((سبل السلام))، لكن فيه مسألة ربما خفيت على كثيرين، وهو أنّ ((سبل السلام))، لم يؤلفه الصنعاني قصدا وإنما اختصر به كتابًا آخر لأحد علماء الزيدية وذلك الكتاب اسمه ((البدر التمام))، وهو موجود بكامله، فاختصر ((البدر التمام)) في ((سبل السلام))، وأضاف عليه بعض الأقوال، و لذلك تجد أنّ هذا الكتاب فيه عدم تحقيق في المسائل المنسوبة إلى الإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله، أما الحنفية والشافعية فالغالب عليه الصواب، أما ما ينسب للإمام أحمد أو ينسب للإمام مالك، يعني من مذاهبهم فهذا تجد فيه هفوات كثيرة بسبب أنّ الأصل على هذا الأساس الأصل هو الذي نقل النقول الكثيرة، فإذًا في قراءة الكتب هنا من جهة العزو لا تأخذ العزو عن كتاب حديث، يعني قال الحافظ ابن حجر، ومذهب الإمام أحمد كذا، أو مذهب الحنابلة كذا، لا تأخذه منه لا تأخذه من الصنعاني، لا تأخذه من ((نيل الأوطار))، لا تأخذ قوله مذهب الشافعية كذا، ومذهب الحنفية من هذه الكتب، بل لابدّ من الرجوع إلى الكتب كتب المذاهب نفسها، لِمَ؟
لأنّا وجدنا أنّ عزوهم للمذاهب يختل كثيرا وخاصة في ((سبل السلام)) و((نيل الأوطار)).
المرتبة الثالثة: أنْ تنتبه في قراءتك لكتب أهل العلم في الحديث وشروح الأحاديث إلى أنّ مؤلفي الشروح لا يشترطُ فيهم أنْ يكونوا محققين في كل فنّ من الفنون، فلا تظنّن أنّ شارح ((بلوغ المرام)) أو شارح ((نيل الأوطار))، أو شارح ((البخاري)) أو شارح ((مسلم)) أو شارح ((أبي داود)) أو ((الترمذي)) لأنه شرح كتاب حديث فهو محقق في كل المسائل التي شرحها، والواقع يخالف ذلك، فمثلا لو نظرت -هذا تمثيل لأجل كثرة الورود عليه- إلى كتاب ((نيل الأوطار)) للشوكاني لوجدت أنه في الأصول إذا أورد مسائل الأصول فهو يحققها لأنّه قويٌ في الأصول، أما إذا أتى لمسائل التخريج تخريج الحديث والرجال والحكم على الإسناد، فتجد فرقا كبيرا بين مستواه فيه ومستواه في علم أصول الفقه، فإذًا تعرف الميدان الذي يحقق فيه المؤلف ((الشارح)) فمثلاً عندك الصنعاني يميل إلى الظاهرية، ويتابع ابن حزم كثيرا في ترجيحاته وفي استدلالاته، ((نيل الأوطار)) من جهة استنباطه وإيراد الأدلة، واستعمال أصول الفقه، تجد أنّه يحقق في ذلك، ولأجل قوة تحقيقه وقع في مشكلات في بعض المسائل، لكن في التخريج في الرجال في الأسانيد إذا حكم هو ليس محققا في علم الحديث، وإنما هو ناقل ينقل في الغالب عن غيره، أو يذكر ما بدا له، فإذًا في منهجيتك في قراءة كتب الحديث يعني شروح كتب الأحاديث ينبغي بل يجب أنْ تعرف فنّ المؤلف ما هو؟ هل هذا المؤلف شرَحَ وفنه الرجال والأسانيد، شرح وفنه الفقه، شرح وفنه الأصول، شرح وفنه الاعتقاد، شرح وفنه اللغة، فإذا عرفت منهجه وعرفت فنه الذي يحققه، عرفت ميزة هذا الكتاب، وكيف تجعله في مرحليات القراءة، أما أنْ يُظَن أنّ كل شرح للأحاديث ففيه كلّ الصواب، فهذا ليس كذلك كما هو معلوم لهذا تجد أنّ بعض الخلاف يكون في كتب الفقه أقوى منه في بعض شروح الأحاديث، لم؟؛ لأنّه يكون المؤلف في شرح الحديث لم يحقق المسألة ويعتني بها كما اعتنى بها شارح الفقه كالنووي في ((المجموع)) أو الحافظ ابن قدامة في ((المغني)) أو ابن حزم إلى آخره.
أيضا من المنهجية المتقررة في كتب الحديث -ولا نطيل عليكم بهذا-، أنّ كتب الأحاديث يعني شروح الأحاديث الكبيرة، قل أنْ تسلم من غلط في العقيدة وسبب ذلك، ليس راجعًا إلى قصورٍ أو إلى بدعة في مؤلفيها بل كلهم حريصون على السنة لكنه راجع إلى عدم الاطلاع على ما في الباب من الآثار والسنن تارة، وراجع تارة أخرى إلى عدم الاطلاع على كلام المحققين في هذه المسألة، بل ربما وقع من بعضهم كلامات قبيحة في حق بعض الصحابة، وهذا لا شك أنّه لا يسوغ أنْ يقبله طالب العلم على إطلاقه، بل تعرف أنّ شروح الأحاديث فيها سمين كثير وصواب كثير، وفيها أيضًا بعض الغلط -يعني مثلاً- هل يجوز أنْ يُقرّ في شرح من شروح الأحاديث، لعن معاوية؟ لا يجوز، هل يجوز أنْ يقرَّ في شرح من شروح الأحاديث وصف عمر رضي الله عنه بالمسكين؟، أين يقع هذا المسكين من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مثل ما قال بعض الشرّاح، هل يتهم عمر رضي الله عنه بإحداث بدعة التراويح، كما في بعض الشروح، هل نجعل بعض الشروح مقبولة لأنّها شرح حديث لأجل مؤلفها وجلالته وإمامته إلى آخر ذلك، ونقبل كل ما فيها؟ الصواب: لا، الصواب الكامل ليس إلاّ عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن كان صوابه أكثر من أهل العلم، فهو الحري بالثناء، هو الحري بالإجلال؛ لأنّه اجتهد في أنْ يكون صوابه أكثر، وهذه مسائل راجعة عند كثيرين إلى مسألة الاستنباط والاجتهاد.
ومن القواعد المقررة عند الفقهاء أنّ العالم لا يُتْبَعُ بزلته وكذلك لا يُتَّبَعُ على زلته، قال بعض العلماء: ((جعل الله جلّ وعلا لكل عالم غلطا إمّا في قول أو في فعل ويعلم الناس أنّه غلط في هذا حتى لا يرتفع عالم إلى مرتبة النبوة))، لا يمكن أنْ يعتقد في أحدٍ أنّه على الصواب التام لا يخطئ البتة، هذا ليس إلاّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لهذا شروح الأحاديث ينبغي من جهة التوحيد والعقيدة، أنْ تنظر على احترام مؤلفيها والترحم عليهم، وعذرهم فيما أخطأوا فيه، لكن لا يتابعون على ذلك، نقول: أخطأ أو يقول العالم الراسخ أخطأ العالم، أولا يذكر أصلا أنّ فلان أخطأ؛ لأنّه ما من عالم إلاّ وله سهو، قد يكون غُلِبَ عليه ما حقق المسألة، تبع ما كان شائعا عندهم إلى آخر ذلك كما هو موجود عند كثيرين، فلابدّ أنْ تُلاحَظ مثل هذه المسائل في قراءة كتب شروح الأحاديث يعني أنْ تجعل العقيدة معك، فلا تتساهل في من يتكلم على الصحابة ولو كان من شراح الحديث، أو ينتمي إلى البدعة والخرافة، ولو كان من شراح الحديث، أو من يحسن البدع العملية ولو كان من شراح الحديث، فإنّ هذا لا يقبل منه ، وهو على نيته ونترحم على الجميع، لكن طالب العلم لا يقبل كل ما في الكتب المختلفة؛ لأنّ مؤلفها فلان وفلان بل يُنْظَر إلى دليلها وإلى موافقتها لقواعد السلف الصالح -رحمهم الله تعالى-.
لو أردنا أنْ نطيل لأخذنا الفقه وأخذنا الأصول والنحو والصرف إلى آخره، ولكن ذكرنا العلوم الثلاثة هذه، ((التفسير والعقيدة والحديث))، لتكون دليلا على غيرها والقواعد العامة، والضوابط العامة في أول الكلام ربما تمشي معك في قراءتك لأكثير الفنون.
وفي الختام أسأل الله جلّ وعلا أنْ يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأنْ يقينا الزلل والعثار، وأنْ يجعل صوابنا أكثر من خطئنا اللّهم إنّا نستغفرك من سيّئاتنا وخطلنا وغلطنا ونسألك اللّهمّ أنْ تعفوَ عنا جميعا، اللّهم ارحمنا وارحم آبائنا وارحم أمهاتنا، اللّهم واغفر لنا جميعا، ونسألك اللّهم أنْ تصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأنْ تصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأنْ تصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللّهمّ وأصلح ولاة أمرنا ووفقهم اللّهم لما فيه الرشد والسداد، وباعد بينهم وبين سبل أهل البغي والفساد يا أرحم الراحمين، وفي الختام أيضًا أشكر الإخوة القائمين على فرع الوزارة في منطقة مكة المكرمة وعلى رأسهم مدير الفرع الأخ الدكتور حسن الحجاجي، على اعتنائهم بهذه الدروس والمحاضرات والدعوة، ولا شكّ أنّ هذا من الواجبات الشرعية المهمة التي أُنيطت بالمسؤول الأول ويؤديها واجبا شرعيا من جهة أخرى، فيؤديها على أنّها واجب ويؤديها على أنها مطلوبة شرعا، فإثراء البلاد بالدروس العلمية وبالدعوة والمحاضرات النافعة هذا لا شك أنّه أمر مطلوب شرعا، وأيضا مم تُيسر له السبل ولله الحمد في هذه البلاد المباركة فلهم منا الشكر الجزيل ودعائنا لهم ولنا جميعا بالتوفيق والسداد.
وصلّ اللّهم وسلم وبارك على نبينا محمد.