فللدماغ عِدةُ احتياجاتٍ أساسيةٍ، كُلما تمَّ توفيرها بشكلٍ أفضلَ تحسنَ أداءُ، وازدادَ عطاءهُ، وتؤكد الدراساتُ أنَّ عدمَ تلبيةِ جُزءٍ واحدٍ من هذه الاحتياجاتِ الأساسيةِ (كدهون أوميجا3) مثلاً، يرتبطُ عِلمياً بمجموعةٍ من العِلل العقليةِ، كضعف الذاكرةِ, وانخفاضِ مستوى الذكاءِ, وتدهورِ القُدراتِ التعليميةِ، وضعفِ التركيزِ, والشيخوخةِ المبكرةِ، فكيفَ ببقيةِ الاحتياجات، لا شكَّ أنَّ الأمرَ سيكونُ أشدُّ سُوءاً واعتلالاً .. ويمكنُ أن نُجمِلَ أبرزَ أسبابِ ضعفِ الذَّاكرةِ فيما يلي:
1) اللغةُ السلبية: الباحثون في عِلم الدماغِ يرونَ أنَّ الرسائلَ الإيجابية (التشجيع) هي أقوى استراتيجياتِ تنشيطِ العقلِ وتقويتهِ والعنايةِ به .. فالكلِمةُ الطيبةُ صدقةٌ وبلسمٌ، والكلِمةُ الواحدةُ قد تُسعِدُ الانسانَ وقد تُحزنهُ .. يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} .. ويشيرُ القرآنُ الكريمُ بصورةٍ غيرِ مُباشرةٍ إلى أنَّ أهمَّ صفاتِ المعلِّمِ هي الرَّحمةُ .. ففي سورة الرحمن .. يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .. وأهل التربية يقولون: “تسعة أعشار التعليم تحفيز وتشجيع” .. بينما الاحصائياتُ تؤكدُ أنَّ الطفلَ العربي قبلَ أن يصلَ إلى العاشِرةِ من عمرهُ، يكون قد تلقى ممن حولهُ أكثرَ من مائة ألفِ رسالةٍ سلبيةٍ مُتنوعة، تتركُ آثاراً سلبيةً سيئةٍ على شخصيته وذكائهِ وذاكرتهِ .. كما تشيرُ الدراساتُ المتخصِّصةُ أنَّ دماغَ الطفلِ أكثرَ تأثرُاً من دماغ الكبيرِ بكثير ..
وحين ننظرُ إلى روعةِ التعامُلِ النبوي مع الصغارِ نرى عجباً .. يقولُ أنسٌ رضي الله عنه: خدمتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين، فما قال لي لشيءٍ فعلتُهُ لِمَ فعلتَهُ، ولا لشيءٍ لم أفعلهُ لم لم تفعلهُ .. عشرُ سنينَ من الخدمة ولم يسمع رسالةً سلبيةً واحدةً .. فيا لروعة التعامُلِ ..
2) عدمُ التَّدريبِ: فقد نقلت صحيفةُ «ايفننق ستاندارد» البريطانيةُ عن خبير المخِ والأعصابِ د. مارك لييثغو قوله: “إن المسحَ بالرنين المغناطيسي بينَ أنَّ الدماغَ ينمو من خلال التدريبِ والتمارين” .. وكما أنَّ عضلاتِ الجسدِ تقوى بالتدريب بينما العضلاتُ التي لا تتمرنُ تضمرُ وتضعُفُ .. فكذلك قُدراتُ العقلِ تقوى بالتمرين .. أما القُدراتِ التي لا تنالُ تدريباً مُستمراً فتضمرُ وتضعفُ ..
وقُدراتُ العقلِ مِثلُ عضلاتِ الجسدِ يستعمِلُها الإنسانُ بما يتناسبُ مع طبيعةِ عملهِ (المحاسِبُ يستخدمُ القدراتِ الحسابيةِ باستمرار وقد لا يستعملُ الخيال، والأديبُ يستعملُ القُدرةَ اللغويةَ باستمرارٍ وقد لا يستعمِلُ القُدرةَ الحسابية، وهكذا .. وكمَا أنَّ بعضَ التمارينِ قد تُدرِّبُ عدداً من العضلاتِ في وقتٍ واحدٍ, فكذلك التمارينُ العقليةُ قد تُمرنُ مجموعةً من القُدراتِ العقليةِ في آنٍ واحدٍ ..
وإذا كان وصولُ الجسدِ إلى اللياقةِ لا يَحدُثُ في ليلةٍ واحدةٍ, بل يحتاجُ إلى صبرٍ ووقتٍ طويلٍ، وإصرارٍ واستمرار، وتِكرارٍ للتمارين، وتنوعٍ فيها .. فكذلك الأمرُ بالنسبة للوصول إلى اللياقة العقليةِ المنشودةِ ..
فإذا كُنتَ تُريدُ الحصولَ على لياقةٍ عقليةٍ عاليةٍ, فدرِّب هذه القُدراتِ ومرِّنها .. فهناك الكثيرُ من القُدرات العقليةِ التي تحتاجُ إلى تمرينٍ وتدريبٍ ومنها:
– الاستنباط – الاستنتاج – التقييم – التحليل
– المنطق – الترتيب – التمييز – الحساب
– التفكير بالعكس – الربط – التعميم – التفريق
– التحديد – التفكير الجانبي – الدقة – الحدس
– التتابع – الخيال – التعبير باللغة – التركيب
وهناك كُتبٌ ومواقعُ كثيرةٌ ومُتنوعةٌ مُتخصِصةٌ في تدريبِ وتنميةِ قُدراتِ العقلِ يُمكنُ للمُهتمِ أن يَستفيدَ منها كثيراً ..
3) سُوءُ التغذيةِ: للغذاء أثرٌ تراكميٌ بطيئ .. لا يُرى أثرهُ السيء إلا بعد سِنِّ الخامسةِ .. حيثُ يبدأُ الطفلُ (عبقرياً) في كثيرٍ من الأحيانٍ ثمَّ نُفاجأ أنَّ الطفلَ بدأ يتدهورُ أداؤهُ قليلاً قليلاً إلى أن يصلَ أحياناً إلى (الحضيض) عند البلوغِ .. وكما أنَّ هناك أغذيةً جيدةً أو غيرَ جيدةٍ للقلب مثلاً، فهناك أيضاً غذاءٌ مُناسبٌ أو غيرُ مُناسبٍ للدماغ .. ومن حيثُ الجملةِ فإنَّ أكثرَ ما نُغذي به أدمغتنا يُعدُ ضاراً بها ..
كما أنَّ السِمنةِ والافراطَ في استهلاك السكرياتِ والنشوياتِ مُؤذيٍ للمُخِّ كثيراً .. فقد ثبتَ مخبرياً أنَّ تناولَ كمياتٍ كبيرةٍ من السُّكرِ والنَّشوياتِ وبشكلٍ مُتواصلٍ يؤدي إلى موت خلايا الدِّماغِ تدريجياً .. فخلايا الدماغِ عندما تقومُ بحرق الأُكسجينِ لإنتاج الطاقةِ, تنبعِثُ نواتجُ جانبيةٍ تُسمى الشواردُ الحرةُ، تتحولُ هذه الشوارد إلى سمومٍ فتاكةٍ تتراكمُ عبر السنينَ فتسببُ تلفاً ونقصاً تدريجياً في قُدراتِ الدماغ .. وعلى هذا فالكثيرُ من الناس يُجرمونَ في حقِّ أدمغَتِهم عندما يَتناولونَ المزيدَ من النشوياتِ والدهونِ المهدرجةِ الضارةِ، ويُهمِلونَ تناولَ الفاكهةِ والخضرواتِ، التي تُحاربُ الشواردَ الحرةَ، ويتركونَ الرياضةَ التي تُخلِصُ الخلايا من السمومِ المتراكمةِ .. ولا يقُومونَ بأنشطةٍ ذهنيةٍ وتدريباتٍ عقليةٍ تُحفزُ نمو خلايا المخِّ وتزيد من تشابكاتها ..
وأظهرت الأبحاث أنَّ أفضلَ طريقةٍ لحماية المخِّ هي دعمُهُ بالفيتامينات, خاصةً مجموعةَ فيتامينات (ب) المركب، وزيت السمك (أوميغا3)، ومضاداتِ التأكسدِ ..
وتشيرُ بعضُ الأبحاثِ إلى أنَّ تأثيرَ السُّكرِ يقِلُ كثيراً إذا أخذُ مع وجبةٍ فيها نسبةٌ عاليةٌ من البروتين. لذا يُنصحُ بالتقليل من النَّشوياتِ والأكثارِ من البُقولياتِ والخضرواتِ والمكسرات .. بالإضافة إلى الخلِّ والليمونِ فهما يُخفضانِ مُعامِلَ التَّسكرِ بنسبةٍ جيدة .. كما يجبُ التقلِيلُ قدرَ الإمكانِ من المنبهاتِ عُموماً، وخُصوصاً مشروباتِ الطاقةِ فلها أثرٌ سيءٌ على قوة الانتباهِ والتركيزِ، وتُضعِفُ القُدرةَ على التحصيل العلمي ..
4) نقصُ الأكسجين: فمن المعلوم أنَّ جميعَ العملياتِ الحيويةِ في الجسمِ تتطلبُ توافرَ الأُكسجينِ بكميةٍ كافيةٍ، وتُفيدُ الأبحاثُ أنَّ تنفُسَ الغالبيةِ ناقِصٌ، ولا يُواكِبُ كامِلَ احتياجِاتِ الجسمِ، وأنَّ نسبةَ الهواءِ التي يستنشقونها لا تتجاوزُ ثُلثَ سِعةِ الرئتين .. وأنَّ من يتنفسُ بطريقةٍ سليمةٍ وفعَّالةٍ فإنَّهُ سيؤدي إلى تنظيف أجهزةِ جسمهِ أكثرَ من طريقة التنفُسِ العاديِ بخمسِ عشرةَ مرةً .. كما أنَّ للتنفس الصحيحِ دورٌ هامٌ في تخفيفِ الضغوطِ النفسيةِ والعصبيةِ، وتقويةِ جهازِ المناعةِ ضدَّ الأمراضِ ..
والتنفسُ الصحيحُ: هو سحبُ الهواءِ بقوةٍ إلى قاع الرئتينِ، وجعلِها تستوعِبُ أكبرَ كميةٍ ممكنةٍ من الهواء، ثمَّ محاولَةِ كتمِ النفسِ لبضع ثوانٍ، وعند اطلاقِ الزفيرِ نحاولُ اخراجَ كُلِّ الهواءِ المستهلَكِ, فهذا يُفسِحُ مكاناً أكبر للهواء الجديدِ ..
5) نقصُ الماءِ: أكدت إحدى الدراساتِ البريطانية، أنَّ نقصَ الماءِ بالجسم يُضعفُ نشاطَ الدماغِ، وكلَّما زادت كميةُ الماءِ المفقودِ من الجسمِ يُصبحُ الدماغُ أكثرَ ضعفاً، وأقلَّ تركيزاً. ومن ثمَّ فقد أوصت الدراسةُ بالإكثار من شُربِ الماءِ، وبما لا يقِلُ عن عشرِ كاساتٍ من الماء النقيِ يومياً (لترين ونصف)، ويفضلُ أن يكون الماءُ بدرجة حرارةِ الغُرفةِ ..
6) عدمُ الإثراءِ: يأتي الأمانُ العاطفيُ في المرتبة الأولى من الأهمية لإثراء دِماغِ الطفلِ حتى سِنِ السادسةِ من عُمرهِ .. ثم تأتي اللغةُ في المرتبة الثانيةِ لإثراءِ دِماغِ الطفلِ في هذه المرحلِة .. وقد ثبتَ أنَّ مُداعبةَ الأمِّ ولمسِها للرضِيعِ، والكلامَ معهُ، يزيدُ من نموِ خلايا المخِّ، وتمدُّدَ الشُجيراتِ العصبيةِ وتقويتها، وتشيرُ الأبحاثُ إلى أنَّ شُعيراتِ الخلايا العصبيةِ في الدماغِ تضمرُ إذا لم يتمَّ استثارتُها وتفعِيلُها، من خلال إعمالِ العقلِ وتفعيلِ الفِكرِ في المناقشات المختلفةِ، أو مُمارسةِ حلِّ المشكلاتِ، وتبادُلِ الأراءِ والأفكارِ، أو المشاركةِ في صُنعِ واتخاذِ القرارِ، فكُلِ هذه الأمورِ ونحوها تزيدُ من تشابُكاتِ شُعيراتِ خلايا الدماغ وتقوِّيها، الأمرُ الذي يزيدُ من سُرعة التفكيرِ ويقوي الذاكرة، ويزيدُ من القُدرة على التعلُّم ..
7) الضغوطِ النفسيةِ: فقد وجد الدكتور سابولسكي أنَّ دوامَ المعاناةِ من الضغوط النفسيةِ يؤدي إلى انكماش خلايا الدماغِ وضمورِ الشعيراتِ العصبيةِ خصوصاً في المنطقة الخاصةِ بالتعلُّم والذاكرةِ .. وأنَّ التعرضَ المتواصِلَ للضغوط النفسيةِ يُؤدي إلى إفراز الكورتيزولِ بشكلٍ مُتواصلٍ في الدماغ، والذي يسببُ موتَ الكثيرِ من الخلايا المسئولةِ عن الذاكرةِ والتَّعلُّم ..
8) قِلةُ النومِ: فقد أكدَ العلماءُ أنَّ مواصلةَ السَّهرِ وقلةَ النومِ ترتبطُ ارتباطاً مُباشراً بالأداء الضعيفِ للدماغ، وتضرُ بعمل الذاكرةِ وتُضعِفُها، حيثُ تتسببُ في إرهاق الخلايا وانخِفاضِ الطاقةِ فيها، وتُؤدي لضيق الشرايينِ وانحِباسِ السُّمومِ بداخِلها .. وأنَّ النومَ العميقَ المتواصِلَ أساسيٌ لتعزيز قُدراتِ الدماغِ، وتجديدِ نشاطِ الذِّهنِ، وتقويةِ الذاكرةِ، والسماحِ لهُ بترتيب المعلوماتِ ومُعالجتِها، حيثُ ينفصِلُ المخُّ أثناءَ بعضِ فتراتِ النومِ العميق (كل ساعةٍ ونصفٍ تقريباً) ليعالجَ المعلوماتِ ويُنظمَ تخزينها في الذاكرةِ، فإذا حصلَ وتمَّ مُقاطعةِ هذه الفترةِ الحرجةِ باستمرار، فإنَّ ذلك سوفَ يُؤثرُ بشدةٍ على مُستوى أداءِ المخِّ فيما بعد ..
9) قلةُ الحركةِ والرياضة: فالأبحاثُ والدراساتُ الكثيرةُ تؤكدُ وجودَ ارتباطٍ قويٍّ بين الحركةِ وجودةِ التعلُّمِ والإبداعِ، وأنَّ الأطفالَ الذين يلعبونَ حسبَ ما يُريدونَ حصلوا على نتائجٍ أعلى في مقاييس الإبداعِ، إضافةً إلى مهارةٍ أكثرَ ومُرونةٍ أكبرَ في الاستعداد لحلِّ المشاكلِ الاجتماعية. وأيدت أبحاثٌ أخرى أنَّ التمارينَ الرياضيةِ تُعززُ مهارةَ التركيزِ، وتزيدُ من نشاط الخلايا العصبية في الدماغ، وتُقوي من أدائها .. ويَنصحُ الخبراءُ بممارسة الرياضةِ المعتدلةِ ثلاثَ مراتٍ في الأسبوع، بمعدل (20 – 30) دقيقةٍ في المرة الواحدةِ .. كرياضة المشيِ بنشاطٍ، أو الهرولةِ أو السباحةِ ..
والضابطُ في المسألةِ أن تزدادَ ضرباتُ القلبِ وترتفع، ويُفرَزُ العرقُ لمدةٍ لا تقِلُ عن العشر دقائقَ في المرة الواحدةِ ..