لا قيادة ناجحة بلا رقابة فاعلة:
لا يشك أحد أنه لا يمكن لمجتمع صغير أو كبير أن ينجح ويحقق أهدافه بدون قائد، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم” ، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:” لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم” وذلك ليكون قوله فاصلا عند النزاع، ولذلك أعطاه الشرع حق الطاعة ولو كانت في أمر تكرهه النفس كما في حديث: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان”. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل جمعا من الصحابة في مهمة وأمَّر عليهم أحدهم فغضب عليهم وأمرهم أن يوقدوا نارا ويقتحموها فهموا بذلك طاعة له ثم قالوا: ما آمنا إلا هروبا من النار فكيف نقتحمها، فلما رجعوا من مهمتهم أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما الطاعة في المعروف”. وقد قال شيخ الإسلام :” فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولي أحدهم كان ذلك تنبيها على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك” . وقال الأفوه الأودي :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
كالبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
ومن أعظم مهام القائد والرئيس أن تسير الأمور التي تحت ولايته على الشكل المطلوب، ولا يتحقق ذلك إلا بالقيام بالرقابة الدائمة لمن هم تحت يده، ليعرف مواطن الخلل فيصلحها، وما كان من أمور إيجابية فإنه يزيدها ثباتا. وهذه الرقابة صورة من صور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }الحج41.
ومع ما للرقابة الذاتية من أهمية إلا أن كثيرا من النفوس تحتاج إلى رادع خارجي، وصدق عمر رضي الله عنه في قوله:” لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن” ، أي أن هيبة السلطان والخوف من عقوبته ترتدع أكثر من المواعظ لكثير من الناس لضعف إيمانهم.
الرقابة في العهد النبوي والعهد الراشدي:
وقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم الرقابة على عماله، ففي صحيح البخاري عن أبي حميد الساعدي قال استعمل رسول الله رجلا على صدقات بني سليم يدعى بن اللتبية فلما جاء حاسبه قال هذا مالكم وهذا هدية فقال رسول الله فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا … .
وكان أبو بكر يمارس الدور الرقابي بنفسه على عماله، فعندما جاءه معاذ بن جبل من اليمن قال له أبو بكر: ارفع لنا حسابك” . وذكر الطبري أنه كان يراقب ولاته مراقبة شديدة، فكان لا يخفى عليه شيء من عملهم” .
وأما عمر فقد طور آلية الرقابة الإدارية، إذ كان مهتما بهذا الأمر أشد الاهتمام، فقد قال يوما لجلسائه:” أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته فعدل، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا : نعم، قال: لا حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا” . فاستشعاره للمسؤولية جعله يراها من واجبات الإمام، وليست الرقابة لمرة أو مرات ثم تقف، بل هي رقابة دائمة، حتى لا يقل العمل، أو يحصل تجاوزات فيه.
كما كان يرسل المفتش العام محمد بن مسلمة للرقابة على الولاة وتفحص شكاوى الرعية والتحقق منها وممارسة التحقيق مع الولاة. ومن أشهر ما روي في ذلك تحقيقه في شكوى بعض أهل العراق ضد واليهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكذا تحقيقه في شكوى بعض أهل دمشق ضد واليهم سعيد بن عامر رضي الله عنه .
ومن سياسته لولاته أنه ينظر في مال الوالي قبل الولاية، ويسجله في سجل، ثم ينظر ما زاد بسبب الولاة فيأخذ نصفه لبيت المال ونصفه للوالي ولو كان كسبه للمال بطريق حلال، وسبب ذلك أن الناس يحابون الوالي لأجل ولايته، فجعلهم كأنهم مشاركون لبيت المال، وهذا من فقهه العجيب . وقد اشتهرت طريقته الرقابية، مما جعل الشعراء يذكرون ذلك في شعرهم، ففي الإصابة: قال أبو المختار يزيد بن قيس بن يزيد بن الصعق كلمة رفع فيها على عمال الأهواز وغيرهم إلى عمر بن الخطاب وهي:
أبلغ أمـير الـمـؤمـنـين رسـالة فأنت أمين الله في النهـي والأمـر
وأنت أمين الله فـينـا ومـن يكـن أميناً لرب العرش يسلم له صـدري
فلا تدعن أهل الرساتيق والـقـرى يسيغون مال الله في الأدم الـوفـر
فأرسل إلى الحجاج فاعرف حسابـه وأرسل إلى جزء وأرسل إلى بشـر
ولا تنسين النـافـعـين كـلاهـمـا ولا ابن غلاب من سراة بني نصـر
وما عاصم منها بصـغـر عـنـاية وذاك الذي في السوق مولى بني بدر
وأرسل إلى النعمان فاعرف حسابـه وصهر بني غزوان إني لذو خـبـر
وشبلاً فسله المال وابـن مـحـرش فقد كان في أهل الرساتيق ذا ذكـر
فقاسمهم نفـسـي فـداؤك إنـهـم سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر
ولا تدعوني لـلـشـهـادة إنـنـي أغيب ولكني أرى عجب الـدهـر
نؤوب إذا آبوا ونـغـزو إذا غـزوا فإن لهم وفراً ولسـنـا ذوي وفـر
إذا التاجر الهـنـدي جـاء بـفـأرة من المسك راحت في مفارقهم تجري
ويريد بابن محرش أبا مريم الحنفي وكان على رام هرمز.
قال البلاذري: فقاسم عمر هؤلاء القوم فأخذ شطر أموالهم حتى أخذ نعلاً وترك نعلاً وكان فيهم أبو بكرة فقال: إني لم آل لك شيئاً فقال: أخوك على بيت المال وعشور الأبلة فهو يعطيك المال تتجر به فأخذ منه عشرة آلاف ويقال قاسمه فأخذ شطر ماله.
وكان لعمر رغبة في عمل جولة تفتيشية في جميع البلاد التي تحت سلطته، ففي الكامل أن عمر قال: قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني أما عمالهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إلي، فأسير إلى الشام فأقيم شهرين، وبالجزيرة شهرين، وبمصر شهرين، وبالبحرين شهرين، وبالكوفة شهرين، وبالبصرة شهرين، والله لنعم الحول هذا .
كما كان عمر رضي الله عنه يراقب سلوك عماله، ويحاسبهم إذا رأى ما يقدح في عدالتهم، فقد بلغه أن أحد عماله يتمثل بأبيات فيها مدح للخمر، فعزله .
وعندما تكلم دعاة الفتنة في ولاة عثمان سعيا للتمرد عليه، اجتمع أصحاب رسول الله إلى عثمان رضي الله عنه فقالوا يا أمير المؤمنين أيأتيك عن الناس الذي آتانا قال لا والله ما جاءني إلا السلامة قالوا فإنا قد أتانا وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم قال فأنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي قالوا نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم من الناس إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة وأرسل أسامة بن زيد غلى البصرة وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام وفرق رجالا سواهم فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا أيها الناس والله ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم وقالوا جميعا الأمر أمر المسلمين ألا أن أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم .
وأما علي فقد كتب للأشتر النخعي حين ولاه على مصر، وأمره بالاهتمام بالرقابة على العمل (الموظفين)، ففي كتابه له:” ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم جدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية” .
وكتب عمر بن عبدالعزيز لعدي بن أرطاة أن ابعث إلي بفضل الأموال التي قبلك من أين دخلت..” .
وهذه نماذج لطريقة مراقبة الأداء الحكومي في تلك العهود الإسلامية الأولى، والتي تعتبر أنموذجا للدولة المسلمة التمسكة بتعاليم دينها.
الصفات اللازمة في من يقوم بالعملية الرقابية:
أولا: كثرة المراقبين وانتشارهم واستعمال عنصر المفاجأة في العملية الرقابية:
حتى تكون الجولات التفتيشية فعالة ومؤتية ثمارها، لا بد من أن تكون على أسس مدروسة. ونجد في وصايا وكتب الخلفاء الراشدين بعض الإشارات إلى مهارات الجولات التفتيشية. فقد كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه في مسيره بالجيش لقتال الروم قال:” وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك،فمن وجدته غفل عن محرسه فأدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنها أيسرهما لقربها من النهار” .
ثانيا: الشجاعة في اتخاذ القرارات:
كما تعتبر الشجاعة عند اتخاذ القرارات من أهم ما يميز المراقب الناجح من غيره، وقد أشار عمر رضي الله عنه إلى هذا فقد أرسل محمد بن مسلمة في مهمة إلى العراق ثم رجع ففني زاده قبل أن يصل إلى المدينة لأنه لم يقبل من أحد زادا، فأخذ يأكل من لحاء الأشجار حتى تغير وجهه وجسمه فلما علم عمر بذلك قال له: ” هلا قبلت من سعد- أي ابن أبي وقاص؟ قال: لو أردتَّ ذلك كتبت له به أو أذنت له فيه، فقال عمر:” إن أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه، عمل بالحزم أو قال به ولم ينكل” ، يشير إلى خطأ أن ينتظر القائم بالأعمال الرقابية التوجيه ممن فوقه في كل الأمور.
ثالثا: عدم الاهتمام بالمخالفات اليسيرة جدا:
وليس من المستحسن ممن يقوم بالعملية الرقابية أن يدقق في الأشياء اليسيرة التي لا يخلو منها بشر، بل عليه أن يتغافل عن بعض الأشياء التي يحسن التغافل عنها، قال بعضهم : أكره المكاره في السيد الغباوة وأحب أن يكون عاقلا متغافلا كما قال ابو تمام:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
وإن كان الكمال في الموظف أن يحافظ على ممتلكات الدولة، ولا يستخدمها لمصلحته الخاصة ولو في الشيء اليسير، وفي قصة حماد بن زيد مثال يبين ضرورة الاهتمام بالأشياء اليسيرة فقد مر حماد بن زيد عندما كان صغيرا هو وأبوه على جدار فيه تبن فأخذ حماد عود تبن، فنهره أبوه وقال: لماذا؟ فقال حماد: يا أبتاه إنه عود تبن، فقال الأب: لو أخذ كل مارٍّ عود تبن هل يبقى في الجدار شيء؟ .
وقد كان عمر بن عبدالعزيز يمارس رقابية مالية دقيقة، وهذا هو سر الرفاه الذي حصل للمسلين في عهده القصير، فقد قال لميمون – وهو معاون له-: ما هذه الطوامير التي تكتب فيها بالقلم الجليل، وتمد فيها وهي من بيت مال المسلمين؟ ( يقصد الصحائف التي يكتب فيها الأوامر والتوجيهات)، فكانت كتبه شبرا أو نحوا من ذلك .
وعندما كتب له أبو بكر بن محمد بن حزم والي المدينة يطلب شمعا للإضاءة، رد عليه فقال:” لعمري لقد عهدتك يا ابن حزم وأنت تخرج من بيتك في الليلة الشاتية المظلمة بغير مصباح، ولعمري لأنت يومئذ خير منك اليوم، ولقد كان في فتائل أهلك ما يغنيك ، والسلام”. وكتب إلى ابن حزم مرة :” إذا جاءك كتابي هذا فأرق القلم ، واجمع الخط، واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة، فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضر ببيت مالهم، والسلام عليك” .
وأرى أنه يجب على من يقوم بالعملية الرقابية أن يقدر الأشياء التي يتغاضى عنها، والمخالفات التي ينبه عليها ، والمخالفات التي يعاقب عليها أو يرفع فيها تقريرا بالمخالفة.
رابعا: السرية طريق النجاح:
كما ينبغي أن تكون بعض العمليات الرقابية سرية، وأن يكون المراقب غاية في الثقة والأمانة والعقل، فقد ورد في الحديث:” استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان” . قال أشهب – وهو من كبار أصحاب مالك بن أنس رحم الله الجميع-: ينبغي للحاكم أن يتخذ من يستكشف له أحوال الناس في السر، وليكن ثقة مأمونا عاقلا .
خامسا: الحكمة في العملية الرقابية:
وأيضا لا بد أن لا يكون القائم بالعملية الرقابية والمهام التفتيشية حكيما في تصرفاته، بأن يعالج المشاكل بالأيسر فالأيسر ويستعمل معهم سياسة ” شعرة معاوية “، قال معاوية رضي الله عنه : لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا سوطي حيث يكفيني لساني ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قالوا: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : كنت إذا أرخوها مددتها وإذا مدُّوها جررتها .
سادسا: الرقابة على الحسنات قبل المخالفات:
وليس من العدل أن تكون الرقابة والجولات التفتيشية منصبة على البحث عن أوجه الخلل، بل هي عملية للنظر في سير العمل، فإن وجد المراقب موظفا أو عاملا يستحق التقدير فلا يغفل ذلك، وإلا فسيكون قدوم المراقب أمرا ثقيلا على جميع العاملين. وعليه أن يعجل مكافأة المحسن، فقد ذكرت بعض كتب التراث قول بعض الحكماء : لا تغفل مكافأة من يعتقد لك الوفاء ويناضل عنك الأعداء فمن حرمته مكافأة مثله زهد في معاودة فعله . وذكروا عن أحد ملوك الفرس الحكماء وهو أردشير أنه قال: على الملك أن يأخذ نفسه بثلاث :
• تعجيل مكافأة المحسن على إحسانه فإن في ذلك شحذ الضمائر على الطاعة،
• وتأجيل عقوبة العاصي على عصيانه، فإن في ذلك إمكان العفو والإقالة ومراجعة التوبة والندامة ،
• والأناة عند طوارق الدهر وحدثانه ، فإن في ذلك انفساح مذاهب الرأي والسياسة وإيضاح غوامض السداد والإصابة .
وتأجيل عقوبة العاصي بأن لا يعاقب إلا بعد التوجيه الشفهي ثم الإنذار الكتابي، ثم العقوبة. وبعض الأخطاء الكبيرة أو الحساسة تستلزم أن يعاقب المتسبب فيها دون إنذار، والمسألة تقديرية.
الرقابة الإدارية في القانون الإداري الحديث:
يسمى هذا النوع من الرقابة التي سبق ذكر نماذج منها في علم الإدارة الحديث بالرقابة الإدارية، وهي الرقابة التي يمارسها الجهاز الإداري للدولة على نفسه، سواء كانت الرقابة داخل المنظمة الإدارية أو من السلطة المركزية. إذن فهي نوعان:
• رقابة داخلية، وهي التي يمارسها رئيس المنظمة الإدارية أو مديرها على موظفيه.
• رقابة خارجية، وهي التي تمارس من السلطة الإدارية المركزية، ويطلق عليها البعض بالوصاية الإدارية .
كما تعرف الرقابة الإدارية بأنها تلك الرقابة التي تقوم بها السلطة بواسطة أحد الأجهزة الإدارية، سواء أكانت من نفس الجهاز أو من جهاز خارجي كديوان الرقابة العامة في المملكة العربية السعودية .
والرقابة الإدارية تنصب على جوانب المشروعية فقط، أي هل الإجراء المتخذ نظامي أم لا .