الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن القراءة هي مفتاح العلم، ويكفينا دليلاً على ذلك أنها أول ما أمر به الرسول صلى الله عيه وسلم وأول ما أنزل عليه كما قال تعالى: ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ “. [العلق: 1-4].
ولأهمية القراءة وطلب العلم أخبر صلى الله عليه وسلم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ولا شك أن من أهم أسبابه القراءة، ولولا القراءة لم يتعلم الإنسان ولم يحقق الحكمة من وجوده على هذه الأرض وهي عبادة الله وطاعته وعمارة هذه الأرض.
ثم إن القراءة تمكن الإنسان من التعلم بنفسه والاطلاع على جميع ما يريد معرفته من دون الاستعانة بأحد في كثير من الأحيان.
وللقراءة فوائد كثيرة لا نستطيع حصرها ولكن يمكن أن نلخص منها ما يلي:
1- أنها مع شقيقتها الكتابة هما مفتاحا العلم.
2- أنها من أقوى الأسباب لمعرفة الله سبحانه وتعالى وعبادته وطاعته وطاعة رسوله.
3- أنها من أقوى الأسباب لعمارة الأرض والوصول إلى العلوم المؤدية لذلك.
4- أنها سبب لمعرفة أحوال الأمم الماضية والاستفادة منها.
5- أنها سبب لاكتساب المهارات ومعرفة الصناعات النافعة.
6- أنها سبب لمعرفة الإنسان لما ينفعه ولما يضره في هذه الحياة من العلوم.
7- أنها سبب لاكتساب الأخلاق الحميدة والصفات العالية والسلوك المستقيم.
8- أنه يحصل بسببها للإنسان الأجر العظيم والثواب الكبير لا سيما إذا كانت قراءته في كتاب الله أو في الكتب النافعة التي تدله على الخير وتنهاه عن الشر.
9- أنها سبب لرفعة الإنسان في هذه الحياة وفي الآخرة لأنها من أسباب العلم والله يقول: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].
10- أنها سبب قوي لمعرفة مكائد أعداء الإسلام والمسلمين من الكفرة والملحدين والفرق الضالة ودحضها والحذر منها.
11- أنها سبب للأنس والترويح عن النفس واستغلال وقت الفراغ بما ينفع.
وقد صدق الشاعر حيث يقول:
علومًا وآدابًا كعقل مؤيد وخير جليس المرء كتب تفيده

وأخير يجب أن نتذكر دائما قوله تعالى: ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ” [العلق: 1-5] وقوله تعالى ” الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ” [الرحمن: 1-4].
وفقنا الله جميعا إلى العلم النافع والعمل الصالح الذي يرضيه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وصف الكتاب
الكتاب نعم الأنيس في ساعة الوحدة ونعم القرين ببلاد الغربة، وهو وعاء مليء علمًا وليس هناك قرين أحسن من الكتاب، ولا شجرة أطول عمرًا ولا أطيب ثمرة ولا أقرب مجتنى من كتاب مفيد، والكتاب هو الجليس الذي لا يمدحك والصديق الذي لا يذمك والرفيق الذي لا يملك ولا يخدعك إذا نظرت فيه أمتعك وشحذ ذهنك وبسط لسانك وجود بيانك وغذى روحك ونمى معلوماتك، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقرك وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة.
ولو لم يكن من فضله عليك إلا حفظه لأوقاتك فيما ينفعك وصونها عما يضرك من فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة ومجالسة من لا خير فيهم، لكان في ذلك على صاحبه أسبغ نعمة وأعظم منة فالكتاب صديق يقطع أوقات فراغك في مؤانسة تنجيك من الوحدة المملة، كما ينقل إليك أخبار البلاد النائية فتعرف أنباءها كما تعرف أنباء بلدتك.

لماذا نقرأ الكتب؟
نقرؤها لأن في القراءة فوائد متعددة سوى ما تقدم منها:
1- أن في القراءة متعة للنفس وغذاء للعلم والعقل والروح.
2- وفيها إزالة لفوارق الزمان والمكان فيعيش القارئ مع الناس جميعًا أينما كانوا وأينما ذهبوا.
3- وفي القراءة ينابيع صافية لخبرة كل مجرب يفيض بالهدى والرشاد والنصح والتوجيه والمعرفة.
4- وفي القراءة سياحة للعقل البشري بين رياض الحاضر وآثار الماضي وبقاياه وآمال المستقبل.
5- والقراءة تنقلنا من عالم ضيق محدود الأفق إلى عالم آخر أوسع أفقًا وأبعد غاية.
6- ويستطيع القارئ أن يعيش في كل العصور وفي كل الممالك والأمصار والأقطار.
7- ونقرأ وصف الرحلات في مختلف أنحاء الأرض فيحملنا الكاتب إلى قمم الجبال ثم ينزل بنا إلى الأدوية ويسير بنا بين الرياض الخضراء ثم ينتقل بنا إلى الصحاري الجدباء وكأننا رفاقه لا يفصلنا عنه طول الزمان ولا يحول بيننا وبينه بعد المكان (إن شئت فاقرأ رحلة ابن بطوطة في مجلدين).
8- وبالقراءة تستطيع أن تكون مع الكتاب والعلماء والمفكرين صداقة تحس بفضلها وتشعر بوجودها، فالقارئ أخذ من صديقه المؤلف أحسن وأجمل ما عنده لأن المؤلف لا يكتب في كتابه إلا كل ما فيه فائدة أو خبرة أو نفع أو توجيه ويختار من الكلام، أحسن ما يجده.
9- وبالقراءة يعرف تفسير كلام الله القرآن الكريم الذي هو أهم المهمات وتستخرج كنوزه وعلومه وأحكامه ويعلم حلاله وحرامه ومحكمه ومتشابهه وأمثاله وبشاراته وإنذاره وعظاته وقصصه.
10- وبالقراءة تعرف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي شقيقة القرآن والمصدر الثاني للتشريع الإسلامي وهي تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه.
11- وبالقراءة تعرف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه التي لنا فيها عظة وعبرة ولنا فيها أسوة حسنة صلوات الله وسلامه عليه.
12- وبالقراءة تعرف علوم الأولين والآخرين وأحوال السابقين واللاحقين.
13- وبالقراءة يسير الإنسان بفكره وعلمه في أنحاء المعمورة وهو جالس في بيته أو مكتبته.
14- وبالقراءة يعرف الفرق بين الحلال والحرام والواجب والمستحب والمكروه والمباح.
15- وبالقراءة يعرف طريق الخير والسعادة وطريق الشر والشقاوة وأعمال أهل الجنة، وأعمال أهل النار، وتعرف أوصاف الجنة وأهلها وأوصاف النار وأهلها.
16- وبالقراءة يعرف الجزاء والثواب للمطيعين والعقاب للعاصين.
17- وبالقراءة والعمل بها تحصل سعادة الدنيا والآخرة والسلامة من شقاوة الدنيا والآخرة، وهذا وإن العلم بحر عميق لا ساحل له وعمر الإنسان قصير محدود، لذا ينبغي له أن يحفظه بالقراءة فيما ينفعه وأن يعمل بما يقرأ وأن يبدأ بالأهم فالأهم وأهم المهمات تعلم كتاب الله تعالى وتفسيره والعمل به، وسنة رسول الله  وشروحها ففيهما السعادة والنجاة قال  «إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبدًا كتاب الله وسنة نبيه» رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

نعم الرفيق (كتاب)
قال الشاعر:
تلهو به إن خانك الأصحاب نعم المحدث والرفيق كتاب

وينال منه حكمة وصواب لا مفشيا للسر إن أودعته

بمثل هذه الأبيات من الشعر وأقوال كثيرة كان السلف الصالح يتفانون في حب الكتب ومجالستها لما فيها من العلم والفائدة، وإن كنا في هذا العصر نشهد ثورة ثقافية هائلة في عالم الكتب حتى أصبحنا المنازل لا تكاد تخلو من مكتبة تحوي أصناف العلوم والمعارف إلا أننا في عالمنا الإسلامي بعد لم ندرك قيمة الكتاب، وليس للكتاب المكانة التي كانت لسلفنا الصالح، فالمشهور عن العرب أنهم لا يقرءون وفعلا هم لا يقرءون ولا يقدرون الكتاب قدره، ولا نريد أن نضرب المثل بالغربيين واحتفائهم بالكتب كما يفعل الكثيرون ممن اغتروا بالحضارة الغربية، ففي سلفنا الصالح كما ذكرت القدوة الكاملة فهم الذين حملوا تراث العلم لهذه الأمة وحصلوا على السبق في هذا المجال.
ولكي يعرف المسلمون أهمية الكتاب والدور الذي يؤديه في رفع شأن الإنسان ومن ثم الأمة نستعرض معًا صفحات من حياة سلفنا، وتقديرهم للكتاب والاهتمام به.
الحرص على الكتابة
حين شاعت في هذا العصر وسائل الترف وركن الناس إلى الخمول كسلوا عن الكتابة وسموا عصرهم عصر السرعة، لذلك فالقارئ يحتاج إلى كل شيء سريع، وخفيف وإن كان هزيلاً، فالماديات لا تدع له مجالاً للتعمق، أما الخليل بن أحمد فإنه يفتح طريقًا لكل سالك علم فيقول: ما سمعت شيئا إلا كتبته، ولا كتبت شيئا إلا حفظته، ولا حفظت شيئًا إلا انتفعت به.
فما كانوا يسمعون شيئًا إلا كتبوه خشية أن يضيع عليهم فإن آفة العلم النسيان وهم بذلك يسمعون وصاية الشافعي -رحمه الله- حين خرج على أصحابه وهم مجتمعون فقال لهم: اعلموا رحمكم الله أن هذا العلم يند كما تند الإبل، فاجعلوا الكتب له حماة، والأقلام عليه رعاة.

شغف بالكتاب
وقد أرسلوا لأقلامهم العنان فقامت ملكتهم الأدبية بوصف الكتاب وصفًا أخاذًا ينبئ عن حبهم للكتب وإدراكهم لقيمتها وشغفهم بها فهذا ابن المعتز يصف الكتاب فيقول: (الكتاب والج للأبواب جريء على الحجاب، فهم لا يفهم، وناطق لا يتكلم وبه يشخص المشتاق إذا أقعده الفراق) وقال آخر: (إنه حاضر نفعه، مأمون خيره، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويمل بملالك فينقبض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى لا يبغيك شرا، ولا ينبش عليك سرا، ولا ينم عليك ولا يسعى بنميمة إليك)، وعبر الشاعر عن التصاقه بالكتاب وقربه إليه فقال:
إن خانك الندماء والأصحاب
نعم النديم إذا خلوت كتاب

أو أن يغيبك عنده مغتاب
فأبحه سرك قد أمنت لسانه

إن العتاب من النديم عذاب
وإذا هفوت أمنت غرب لسانه
بل إن بعضهم كان يستعين به على الغربة ووحشتها ويوصي به المسافر فودع أحدهم صديقا له فقال له: (استعن على وحشة الغربة بقراءة الكتب، فإنها ألسن ناطقة، وعيون رامقة).
وهو النديم حين يتفرق الندماء، وبه تأنس الوحدة، وتطيب المجالس، قيل لبعضهم أما تستوحش، فقال أيستوحش من معه الأنس كله، قيل وما الأنس كله؟ قال الكتاب.
استشعر ذلك ابن المبارك فكان يطيب له كثيرا مجالسة الكتب والخلوة معها فلامه أصحاب على عدم رؤيتهم له فقال لهم: (إني إذا كنت في المنزل جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) يعني النظر في الكتب.
اقتناء الكتب
وطبيعي أن يكون هذا الحب والشغف للكتب مع إدراك قيمتها وفائدتها دافعا لهم لشرائها واقتنائها لا لوضعها لزينة وديكور (تزين به الغرف كما يفعل الناس الآن) إنما للمطالعة والبحث والاستفادة، ولهم حوادث طريفة كل الطرافة في حسرتهم على فقد الكتب وبيعها أو في سعادتهم بشراء الكتب، فحدث أن باع أحدهم كتابا ظن أنه لا يحتاج إليه ثم إنه احتاج إليه فالتمس نسخة منه، فلم يجدها بعارية ولا ثمن، وكان الذي ابتاعه قد خرج به إلى بلده فشخص إليه، وسأله الإقالة وارتجاع الثمن منه، فأبى عليه، فسأله إعارته لنسخ الكلمة منه، فلم يجبه، فانكفأ قافلا وآلى على نفسه ألا يبيع كتابا أبدا.
وقيل لآخر: ألا تبيع من كتبك التي لا تحتاج إليها؟ فقال: إن لم احتج إليها اليوم احتجت إليها بعد اليوم.
وقد لاموا أحدهم بشراء كل كتاب يراه وقالوا له: إنك لتشتري ما لا تحتاج إليه فقال: إنما احتجت إلى ما لا أحتاج إليه وكان بعض القضاة يشتري الكتب بالدين والقرض، فقيل له في ذلك فقال: أفلا أشتري شيئا بلغ بي هذا المبلغ قيل: فإنك تكثر فقال: على قدر الصناعة تكون الآلة.
استعارة الكتب وآدابها
قرأت في إحدى المجلات عن أشخاص كونوا لهم مكتبات من كتب الناس، فكانوا يستعيرونها ثم لا يرجعونها وانتشرت سرقة الكتب هذه تحت ستار الاستعارة حتى اشتهر بها أناس من المعروفين بالمكانة الاجتماعية وإن كان هذا طريقا غير شرعي ولصوصية فقد ذمه السلف، ووضعوا آدابا لاستعارة الكتب من خالفها يمتنعون عن إعارته مرة أخرى.
فمن آداب الاستعارة توقير الكتاب والاهتمام بنظافته، فكثير ممن يستعيرون الكتب يرجعوها إلى أصحابها أبعد ما تكون عن النظافة، وحدث هذا مع أبي حامد أحمد بن طاهر الإسفراييني الفقيه حين استعار منه رجل كتابا فرآه يوما وقد أخذ عليهم عنبا ثم إن الرجل سأله بعد ذلك أن يعيره كتابا، فقال تأتيني إلى المنزل فأتاه، فأخرج الكتاب إليه في طبق وناوله إياه، فاستنكر الرجل ذلك وقال ما هذا فقال أبو حامد: هذا الكتاب الذي طلبته وهذا طبق تضع ما تأكله عليه فعلم بذلك ما كان من ذنبه.
ومن آداب الاستعارة ألا ترجع الكتاب متغيرًا متكسرًا مهلهلاً فإن فعلت ذلك عوقبت بمنعك من الاستعارة كما فعل بعض أهل العلم حين استعار من رجل كتابًا ثم رده إليه بعد حين متكسرا متغيرا عليه آثار البذور وغيرها، فسأله أن يعيره غيره فقال له: ما أحسنت ضيافة الأول فنضيفك الثاني، أما فقد الكتاب المستعار فهذه الكبيرة من كبائر الاستعارة لا يحق لمن فعلها أن يعار بعد ذلك حتى أن أحدهم بين ندمه على تضييع كتاب قد استعاره فقال: إنه أعاره رجل من وجوه بني هاشم بالبصرة دفترًا فضاع فتفجع لذلك فاعتذرت إليه وقلت:
تعطي المعالي وتبسط النعما
يا مالكا ما تزال راحته

بواسع العفو منك ما اجترما
هب لمقر بالذنب معترف

فخانه الدهر فيك فاصطلما
أعرته دفترًا تضن به

يزيد عندي خطيئتي عظما
إعضامك العلم إذ فجعت به

وجعل الشاعر رد الكتاب المستعار شرطا في الإعارة فقال:
إن رددت الكتاب كان صوابًا
أيها المستعير مني كتابًا

كنت أعطيته أخذت كتابًا
أنت والله إن رددت كتابًا

وبعد: يا أخي المسلم: إسلامك يحتم عليك أن تكون ذلك الداعية الذي يحمل دعوته عن علم لا عن جهل، وأعداء الإسلام يغرقون الأسواق بكتبهم المبتذلة وهم مع ذلك لا يجدون من يقبل عليها فيضطرون لتوزيعها مجانًا فأقبل أنت على الكتاب الإسلامي وشجع هذا الكتاب واحرص على اقتنائه وبذل الدعاية له ونشره بين أوساط الناس، وحين تفعل ذلك تكون قد نشرت فكرتك بين الناس وواجهت أي أفكار معادية وبالله التوفيق